حكم الأذان والإقامة في أذني المولود .... لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
عن الأذان في أذن المولود اليمنى والإقامة في إذنه اليسرى؟
هذا مشروع عند جميع من أهل العلم ، وقد ورد فيه بعض الأحاديث ، وفي سندها مقال ، فإذا فعله المؤمن حسن؛
لأنه من باب السنن ومن باب التطوعات، والحديث في سنده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب وفيه ضعف، وله شواهد، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تسمية إبراهيم، ولم يحفظ عنه أنه أذن لما ولد له إبراهيم
سماه إبراهيم ولم يحفظ عنه أنه أذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، وهكذا الأولاد الذين يؤتى بهم إليه من الأنصار ليحنكهم ويسميهم .. لم أقف على أنه أذن في أذن واحد منهم وأقام، ولكن إذا فعل ذلك المؤمن للأحاديث التي أشرنا
إليها فلا باس، لأنه يشد بعضها بعضاً، فالأمر في هذا واسع .
إن فعله حسن لما جاء في الأحاديث التي يشد بعضها بعضاً، وإن تركه فلا بأس.
وبهذا يصبح الآذان والإقامة فى أذني المولود تثبيتاً لمعالم الفطرة فى ذاكرة الطفل المسلم،
يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:
(كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه) رواه أبو يعلي والطبراني فى مسنده، وبهذا يحمل المولود فى عنقه ربقة الإسلام، وبيعة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، عليها يحيا وعليها يموت، وعليها يبعث آمنا يوم القيامة إن شاء الله.
وبعد هذه الشهادة يبدأ التسجيل وما هو معلوم أن المولود ليس له سلوك يسجل له أو عليه، ولكن ما يسجله المخ فى هذا الوقت المبكر من حياة الطفل هو ما يقوله الآباء والأمهات، وما يصدر منهم من أقوال وأفعال، وهو سلوك يحاسبون عليه وقد يكون من محاسن أعمالهم وربما كان عكس ذلك.
ولن نسترسل فيما يسجله الآباء والأمهات على أنفسهم، ولكنا نتحدث عما يسجله الإنسان على نفسه عندما يصبح مكلفاً ومسئولاً عن عمله، يخرج هذا التسجيل يوم القيامة، كتاباً يلقاه منشورا،
ويقول له الحق سبحانه وتعالى: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً{14}} {الإسراء: آية 14}.
وكان الدكتور جمال رحمه الله، وجزاه الله خيراً، قد شبه المخ بالطائر استئناسا بالقرآن الكريم من قول الحق سبحانه
"طائره فى عنقه" وهذا تجسيد لأجزاء المخ فى ترابطها، وشكلها التشريحي، بما فيها من فصي المخ، والمخ الأمامي، والمخ المتوسط، والنخاع الشوكي، والتشبيه له وجاهته العلمية، ولكن الله سبحانه لا يصف الأعضاء بأشكالها التشريحية
أو بغيرها مما نتصوره، فيعلم عنها فئة من الناس دون غيرهم، إذا أجهدوا تصورهم، ولكن الله سبحانه يصف الأعضاء بعمومية تختلف وتتعالى مع تعالى علمه وقدرته، ومع أن العرب عرفوا علم التشريح فى العصر العباسى، إلا أن أحدا
من المفسرين لم يقل بهذا الرأي، ولكن الذي قالوا به- ومنهم الإمام البيضاوى وغيره- قالوا: إن المقصود بالطائر فى العنق هو العمل، وبهذا يصبح المعنى أوضح، فكل إنسان ألزمه الله عمله فى جهازه العصبي مودعا فى عنقه مسجلاً فى خلايا المخ، وعلى أليافه العصبية، وهذه وظيفة مهمة من وظائف الجهاز العصبي بما فيه من ذاكرة، فى حدود مدارك البشر، فهو يسجل مدركات من محسوسات سمعية وبصرية ومن أحاسيس الجسم، وهي ما نراه وما نسمعه وما نحسه بحواسنا المعروفة- وليس هذا فحسب بل هو يسجل مدركات ومعلومات تختفى فى نفس الإنسان وضميره،
وهذا ما يوضحه قول الحق سبحانه:
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً{36}}. {الإسراء: آية 36}.
وهذا يعني أن العاطفة والوجدان، وما يصل بذلك من هوى النفس، كل هذا محسوب ومسجل فى خلايا المخ، وهذا كله محفوظ فى داخل الرأس بقدرة الخالق سبحانه، تحيط به عظام الجمجمة، وتحيط به أغشية ثلاثة، وتغذيه أوعيته الدموية، وتحميه سوائله، وهذا أول جهاز تسجيل عرفته البشرية يحمله الإنسان فوق عنقه، ويسير به أينما اتجه، لا ينفك عنه، وأجهزة تصنته من الحواس الخمس مثبتة على جوانبه، متصلة به اتصالا مباشرا لا تفارقه، هذا هو مسجل القدرة الإلهية.
خلق عجيب، استودعه الله أعلى قمة فى الإنسان يتربع فى هذا المكان، ويطل على ما حوله، ومن الإعجاز الغريب أن
الله سبحانه كما رفع مكانة، جمل المكان وعظمة، وجعل ما يحيط بالجهاز العصبي، من أدوات تصنت من سمع وبصر
وشم وتذوق وإحساس، جعل أعضاءها من صفات الحسن والجمال، يتغنى بها الشعراء، ويعتني بها الرجال والنساء. ولكونها أدوات تصنته، فهي تلتقط كل ما يصدر عنه من إحساس وحركة وعاطفة وسلوك، تسجله فى الذاكرة فى خفاء، والجمجمة وما يحيط بها من أعضاء مغلقة كلها محاطة بالجلد، وهو من نفس نسيج الجهاز العصبي، ولهذا فإن اللمسة وكل ما يحسه الجلد ويتلذذ به أو يتألم منه كله مسجل، وهذا ما يشير إليه قول الحق سبحانه:
{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإليهِ تُرْجَعُونَ {21}} {فصلت: آية 21}.
والناس اليوم يتسابقون على حمل الهاتف، وقد أصبح المحمول فى يد أصحاب الأعمال والشباب يقلدونهم كمظهر من مظاهر الترف، وهذه سمة العصر الذي نعيشه ومن مستحدثاته واختراعاته، ولا يدري هؤلاء الشباب أنهم يسجلون على أنفسهم كل ما ينطقون به ويقولون ما لا يقال وبهذا أضافوا محمولا صناعيا فوق ما يحملونه من المحمول الحقيقي،
وخير للشباب أن يسجل على نفسه محمول واحد حتى لا ينوء كاهلهم بعد ذلك بما يسجله هذا المحمول الجديد من أسرار، هي فى حقيقتها ذنوب وأوزار، إلا من عصمه الله وكان محمولة لخير دينه ودنياه.
فكل إنسان يحمل فوق عنقهّ هذا المحمول، كل الناس فى حمله سواء، كل يحمله بداخل رأسه، يسير به حياته كلها، يحمله فى كل أوقاته، وعموم أحواله فى نومه ويقظته، فى انتباهه وغفلته، فى أفراحه وأحزانه، فى عسره ويسره، فى تفكيره وتدبيره، ولا يتعطل لحظة واحدة، وتوقفه عن العمل معناه هلاك صاحبه، هذا هو المحمول الحقيقي، وهو جهازك
العصبي الذي يحمل عملك، خلقه سبحانه بقدرته، وسيره بحكمته، ليعمل على مدى العمر كله، لتعلم أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما، يسجل هذا الجهاز فى كل لحظة، لا يهدأ ولا يستريح، فليست أليافه التي يسجل عليها أليافا صناعية، تبلي وتتآكل عندما يدركها القدم، ولكنها ألياف عصبية وخلايا حية تتجدد وتنشط، وتحيا حياة بيولوجية بحياة الإنسان، فلا يتوقف نشاطها إلا بانتهاء الأجل، ويتصل بسمعك، وبصرك وفؤادك، وكل ما بداخل جسمك من أعضاء وأحشاء، اتصالاً مباشراً وغير مباشر فيصل باتصالاته العصبية إلى داخل أعماقك، فيسجل خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وصدق ربى سبحانه وتعالى وهو يقول:
{لِّلَّهِ ما فى السَّمَاواتِ وَمَا فى الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ{284}}
{من آخر سورة البقرة}.
هذا هو الفارق الكبير بين التسجيل الإلهى والتسجيل البَشَرى، لأن المخ وهو مسجل القدرة الإلهية عندما استودعه لله فى عنقك، تغذيه دماؤك، وتصل إليه شرايينك، وتنقيه أوردتك، فلا يعلق به ما يفسده، جعل الله سبحانه من وظائفه أن يسجل أحداث الحياة كلها، حلوها ومرها، صفاءها وكدرها، صدقها وكذبها، جدها وهزلها، سرها وعلنها.
ألم تسمع قول الحق سبحانه وهو يقول:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16}إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ {17} مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ{18}}
{سورة ق: 16-18}.
أما كيف يسجل؟ فهذا ما اكتشفه العلماء عندما اخترعوا جهاز رسام المخ الكهربائى، واستقبلوا به نشاط المخ كله فى صورة شفرة كهربائية فسيولوجية، هي حصيلة تفاعلات وظائف الجسم البيولوجية، بما فيها من فكر وعاطفة ونزوع. وهذا ما وضحناه عندما تحدثنا عن الخلية العصبية وكيف تتفاعل، وهكذا، فإنه يمكننا أن نقول إن أعمال الإنسان مسجلة له أو عليه، عن طريق خلايا المخ ، بالإضافة إلى حفظ هذه الأعمال عن طريق ما يسجله الحفظة الكرام الكاتبين، وصدق ربى سبحانه وهو يقول:
{وَمَا تَكُونُ فى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فى الأَرْضِ وَلاَ فى السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فى كِتَابٍ مُّبِينٍ{61}}
{سورة يونس: 61}.
ويقول سبحانه:
{ كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ {9} وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ{10} كِرَاماً كَاتِبِينَ {11} يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ{12}}
{الانفطار: 9-12}.
ويقول سبحانه:
{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ{80}}
{الزخرف: الآية 80}.
هذا هو عمل الإنسان مسجل بعلم الله وحكمته وقدرته، فى صور متعددة، وكلها تحت سمع الله وبصره، لا يخفى عليه شئ، ومن هذه التسجيلات المتعددة ما يسجله الجهاز العصبى، وما يسجله الإنسان على نفسه، ويوم القيامة يخرجه رب العزة صحفاً مكتوبة تتطاير، فإذا انتهت إلى صاحبها قال له الحق سبحانه:
{اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)
فإذا تيقن العباد أنهم محاسبون، بما قدمت أيديهم سمعوا صوت الحق يقول:
{هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ{29})
{الجاثية: الآية 29}.
وبهذا أحبتي انتهى الجـ 2 ويليه جـ 3
منقول للفائدة
المفضلات