الشيخ الدكتور عائض القرني *
من بلادي يطلب العلم ولا
.......................... يطلب العلم من الغرب الغبي
وبها مهبط وحي الله بل
.......................... أرسل الله بها خير نبي
قال الراوي : يا عائض ، دعنا من الردود والنقائض ، فإنا نرى الفجر وشيكا، فحدثنا عن أمريكا قلت: الله المستعان ، وهو عظيم الإحسان ، ممدوح بكل لسان . لقد سافرنا قبل مدّة ، من أبها إلى جدة ، في صحبةٍ بالصدق معروفون ، وبالخير موصوفون ، فكنا قرابة العشرة ، قاصدين بلاد الكفرة ، فلما ودّعنا البلاد ، وحملنا الزاد والمزاد ، أنشد شاعرنا بصوت جميل ، ودموعه تسيل :
سقى الله أرضاً لامس الوحي أرضها
.......................... وجميـلها بالشـيح والنفـلانِ
فأنتِ التي أسكنـتِ حـبكِ مهجتي
.......................... وسحـرك في عيني وملءُ جناني
ثم مشينا مع الجموع السائرة ، حتى ركبنا الطائرة ، فرأينا الكبتن، كأن خده لبتن، أحمر الوجنتين، أزرق العينين ، فلما طرنا مقلعين ، وسافرنا مسرعين ، قاربنا السحاب ، وللطائرة أزيز وانتحاب ، فنظرنا إلى القمر المضاء ، وطالعنا كتاب الفضاء ، فبهرنا ذاك الصنيع ، والخلق البديع، من شمس تسطع ، وقمر يلمع ، ونجوم زواهر ، وبحار زواخر ، الأرض مكوّرة ، والسماء مدوّرة ، والكون ليس عاطلا ، فسبحانك ما خلقت هذا باطلا وسمعت للركاب تصدية ومكاء ، قلت أين أنت يا بكاء :
اقرأ القدرة في الكون البهيج
.......................... لا تكن يا صاحِ في أمر مريج
قـل هو الـرحمن آمنا به قدس
.......................... الباري ورتل في نشيج
فلما اقتربنا من تلك الولايات ، قرأنا بعض الآيات ، وأنشدنا شيئاً من الأبيات ، وهبطنا في مطار جون كندي ، ودثّرت من شدة البرد جسدي ، وأصبحنا من البرد في ثلاجة ، حين وصلنا ديار الخواجة ، وانتظرنا في صف عريض ، بين سود وبيض ، والجوّ من أفعال أولئك مريض ، ثم سمعنا أمريكياً يرطن ، يقول هيّا إلى واشنطن ، فغادرنا المحل والسكن، وركبنا مع شركة بان أمركن ، فحززنا أجسامنا بالرباط حزّا، وهزتنا الطائرة هزّا ، لأن قائدها أهوج ، قلبه مثلّج ، فكل راكب بالخوف مدجّج ، فكأنها من الركاب فاضية ، ونادى بعضنا يا ليتها كانت القاضية ،
أما الأمريكان ، فما كأنّ شيئاً كان ، فهم في لهوهم يضحكون ، وإذا مروا بنا يتغامزون ، فما أدري ، والطائرة تجري، هل تعجبوا من جزعنا ، وسخروا من فزعنا ، وأنكروا هلعنا ، فليتهم يعلمون ، وعن غيّهم يرجعون ، أن أجدادنا نحن أهل الوجوه الصفراء ، والغتر الحمراء ، كانوا بالتوحيد فاتحين ، وعلى أمواج البحار سابحين ، قلوبهم مصاحف ، وبيوتهم للفضائل متاحف ، يحملون الأرواح على السراح ، إذا نادى المنادي :
السلاح السلاح ، أما علمتم أنا أتباع محمد، خير من تعبّد ، وصام وتهجّد ، ومنّا الخلفاء الأصفياء ، الأوفياء الشرفاء ، ومنّا العلماء الكرماء الحلماء ، والسادة أهل الإفادة ، والرفادة والوفادة . نحن حملة المحابر ، وأصحاب الدفاتر ، وروّاد المنابر ، فضحكوا ساخرين ، والتفتوا لقوم آخرين ، وقالوا قطعتكم الأماني ، وأشغلتكم الأغاني ، يا ضرّابة العود ، ويا رعاة القعود ، ليلكم طرب ، ونهاركم لعب ، يا بلاد الفنانين والفنانات ، والمغنين والمغنيات ، الأحياء منهم والأموات ،..
قلنا كذبتم ورب المشارق والمغارب ، و لا يكتم الحق إلا كاذب ، أين أنتم يوم فتحت لنا السماء ، وكتب تاريخَنا الحكماء ، يوم عشنا في العالم رحماء ، وحكمنا الدنيا حلماء ، وملأنا المعمورة علماء .
هل أشرق الفـجر إلا من مآذننا
.......................... وهل همى الغيث إلا من مآقيـنا
حتى النجوم على هاماتنا سجدت
.......................... والشمس في حسنها قامت تحيينا
فقالوا تلك أمة قد خلت ، وحقبة سلفت ، وقد نامت النعجة في مربض الأسد ، لما نسيتم قل هو الله أحد ، أخذتم من الغرب قشوره ، وما صنعتم للعالم طبشورة ، وأخبار لعبكم ولهوكم منشورة ،.. قلنا فاتكم الصواب ، وأخطأتم في الجواب ، فأنتم الذين تركوا العالم هشيماً ، أما دمرتم نجزاكي وهيروشيما ، أهلكتم النسل والذرية ، بالقنابل الذرية ، حكمتم بلا شريعة ، وأحللتم المخالفات الفظيعة ، ونشرتم كل عادة خليعة ، هجرتم الذكر ، ونسيتم الشكر ، وأبحتم السكر ،..
فقال قائل منهم ، وتحدث كاتب عنهم ، فذكر لنا صناعتهم ، وشرح لنا بضاعتهم ، وقال : أما ملأنا البر حتى ضاق عنّا ، وحكمنا البحر بقوة منّا ، أما صنعنا الطيارة ، أما هندسنا السيارة ، أما سهلنا التلفون ، ويسرنا التلفزيون ، واستفدنا من ذبذبات الأمزون ، أما صنعنا للعين زجاجة ، وللطعام ثلاجة ، وللطفل درّاجة ، ضخّمنا بالميكروسكوب الهباء ، وأضأنا الليل بالكهرباء، أجدنا الدفاع والهجوم وبلغنا بالاختراع النجوم ، هبطنا على القمر، واكتشفنا الماس من الحجر ،..
قلنا رفضتم الإيمان ، وهجرتم القرآن ، وأطعتم الشيطان ، هدمتم المساجد ، وشيدتم للفجور المعابد ، أنفقتم المليارات على البارات ، وعرضتم للناس الغانيات، وملأتم المراقص بالمغنيات ، المخمور في شوارعكم يخور ، والكأس على رؤوسكم تدور ، الأبيض عندكم مقدس والأسود مقهور ، البنوك لديكم مرابية ، والأسواق في بلدكم لاهية ، ومجالسكم لاغية ، ملحدون لا موحدون ، متفرقون لا متحدون ، ليس لديكم إسلام ولا صلاة ولا صيام ، ولا حلال ولا حرام ، شهواتكم وثَّابة ، وألسنتكم كذابة ، كأنكم في غابة ، قتلت عندكم المبادئ في النوادي ، في كل يوم وللرذيلة لديكم ألف منادي ، أين الاعتراف بالاقتراف ، أين الكفاف والعفاف ، غارقون في المادة ومن الفضيلة أجلاف ، لا وضوء ولا طهارة ، ولا مسجد ولا منارة، بل أنتم أصحاب حانوت وخمّارة .
للدماء سفكتم ، وللأعراض هتكتم .
تكاد تسقط من أفعالكم غضباً هذي السماء وتخبو منكم الشهب والجو يظلم مما تصنعون فيا ويح الحضارة إذ ما صانها الأدب .. فقال دعنا من الأشعار ، ولا تلصق بنا العار ، فما يرتفع الدخان إلا من النار ، أما تشاهدون تقدمنا أما ترون ، ما لكم لا تنظرون ، غزونا المريخ ، وأنتم تعيدوننا إلى التأريخ ، فماذا فعلتم في قديم الزمان ، تكلموا ولكم الأمان ،.. فقلنا :
سبحان الملك القدوس ، ما أظلم هذه النفوس
أليس على أرضنا الوحي هبط ، وفي ديارنا غيث الرسالة سقط ، ومنا عرفت الهداية فقط .
أليس منّا الصدّيق وعثمان ، وعمر وثوبان ، وعليّ وسلمان، وبلال وحسّان ، منّا خالد المقدام ، والقعقاع الصمصام ، ومنّا همّام ، وأبو تمام ، ومنّا أويس ، والأحنف بن قيس ، وأسماء بنت عميس . أما صفق لقدومنا الفرات والنيل ، وهلل لطلعتنا مضيق الدردنيل ، نحن أساتذة الأكراد والتركمان ، ومعلموا الإنجليز والألمان ، أما اندهش من عبقريتنا شارلمان ، وبسماحة الصّدّيق فتحنا الطريق ، بدرة الفاروق ، أدبنا أهل العقوق ، بصدق أبي ذر، قلنا الحق وهو مرّ ، منّا الرشيد الذي تحدّى السحاب ، وملك من طنجة إلى البنجاب ، ومنّا المعتصم الذي فتح عمورية ، ونسخ الدولة الآشورية ، منّا السعدان والسعيدان ، والسفيانان ، والحمادان ، ومنّا البخاري ، وصاحب فتح الباري ، ومؤلف لامع الدراري ، وشارح هدي الساري ، بعثنا للعالم مبشرين ، وخرجنا للناس ميسرين ، أذقنا العباد طعم الحرية ، وأعتقنا العالم من المنظمات السرية ، أذنّا في الحمراء ، وصلينا في الزهراء ، ربطنا خيولنا على ضفاف اللوار ( ) ،
وسجدنا على صحراء سنجار، وتلونا القرآن على جبال قندهار ، رفعنا الإيمان في الهند ، ونشرنا المعرفة في السند ، أسرنا الجبابرة ثم أعتقناهم ، وملكنا الأكاسرة ثم أطلقناهم ، نكبّر فتسقط القلاع ، نؤذّن فتهتز التلاع ، نقرأ فتطرق الأسماع
. لبسنا الثياب المرقعة ، والأحذية المقطعة ، ففتحت لنا البلاد ، ورحب بنا العباد ليلنا قيام، ونهارنا صيام ، في الدجى رهبان، وفي الميدان فرسان ، على المنابر سادة ، وفي المعارك قادة، ساوينا بين الأمراء والفقراء ، والحقراء والكبراء ، أنصفنا الشاة من الذيب ، وعلّمنا الوحوش التهذيب . نحن شموس العلوم ، ونجوم الفهوم ، ربطنا على بطوننا الحجارة من الجوع، وبللنا مواطن السجود بالدموع ، وكنّا في صلاتنا كالسواري من الخشوع . نتوضأ فتتناثر منّا الخطايا ، نغنم فتسيل من أيادينا العطايا ، نرتل القرآن فتقف على أصواتنا المطايا .
نادى منادينا ، على سنة هادينا ، يا أيتها النفوس من الموت اشربي ، ويا خيل الله اركبي ، فجمّد الله لنا الماء ، وظلّل علينا الغمام في السماء . منّا من اهتز لموته عرش الرحمن ، ومنّا من كلّمه الله بلا ترجمان ، ومنّا من غسّلته الملائكة يوم التقى الجمعان ، لا نكذب ولو أنّ السيوف على الرؤوس ، ولا نسرق ولو أنّ الجوع يمزق النفوس ، اسمعوا ماذا قال كاتبكم وله منكم معجبون ، أعني جوستاف لوبون ما عرف العالم فاتحاً أعدل من العرب ، فهم أهل الرحمة والحلم والأدب ، واستشهِدوا الكتب :
نحن هل تدري بنا للناس فجرُ
.......................... قصدنا جـنّة مـولانا وأجرُ
قد ملأنا الأرض عدلاً وارفاً
.......................... وسِوانا في الورى عُجْرٌ وبجرُ
أمّا ما ذكرت من تخلفنا هذه الأيام ، فهو لضعف تمسكنا بالإسلام، ملأنا الكروش وشاهدنا الدشوش ، وزينا الرموش ، وجمعنا القروش ، اشتغلنا بالمراسلات ، وسهرنا مع المسلسلات ، فأصبحنا في السلاّت المهملات ، والخانات الفارغات ، أحببنا الكرسي ، وعشقنا التبسي ، وأدمنا الببسي ، وتعلقنا بالتكسي ، نحن في الأسواق أمواج ، وفي الشوارع أفواج ، أموالنا في شراء الدجاج ، وأوقاتنا ذهبت في الحراج ، لما اتخمنا بالعصيدة ما أصبحنا ننظم القصيدة ، أصبح طالبنا أبله ، لأنه عاش مع طه والطبلة ، حفظنا متن التيس والتميس ، والكيس والكبيس ، أصبح نشاطنا بزفير وشهيق ، وتشجيع للفريق ، وللبواري هدير ونهيق .
لا يصلي الفجر منّا إلا قلة ، ولا يحفظ القرآن إلا ثلة ، ونقول نحن أنصار الملة . مع العلم أن الاهتمامات دلّة ، وفلّة ، وسلّة ، وشلّة .
كبارنا منهمكون في القيل والقال ، وحب المال ، إلا من رحم ذو الجلال ، وشبابنا كالأطفال في الروضة ، مشغولون بآخر موضة ، ولهم في الملعب ضجيج وفوضة ، عقل أحدهم كأنه ريشة ، وسلوته السيجارة والشيشة : رحماك فهل نحن أحفاد الأُلى ركبوا موج البحار بدين الواحد الصمد فـما دهـانا رجعنا القـهقرى أسفا أشك يا دهر في قومي وفي بلدي فوالذي زين الشمس في ضحاها ، وجمّل القمر إذا تلاها ، وحسن النهار إذا جلاّها، ما أصابنا التخلف، وما دهانا التوقف، إلا يوم عصينا رب العباد ، وتركنا الجهاد، وكثر فينا الفساد ، كان مؤذننا بلال ، وملعبنا ميدان القتال ، وقصدنا ذو الجلال ، فما أصبح لنا طول ولاحول ، لأن همنا كمْ سجلنا من قول ، فيا للهول ، بالأمس كان شبابنا بالقرآن يفرح ، وللسنة يحفظ ويشرح ، واليوم أصبح يسرح ويمرح ، مع نجوم الفن والمسرح ، أما تنظر إلى شعره إذا رصّه، وجعل له قَصَّة ، ثم مسح شفتيه بالمكياج ، ومشى وله ارتجاج ، فكيف لو رآه الحجّاج ، وما ترى لو دُبِغ بكرباج .
لو أن للدهر عيناً منهموا دمعت أو أن للصخر قلباً نابضاً لبكى أزروا بأمتهم من سوء سيرتهم لأجلهم كم سألنا الموت لو فتكا ..
فقالوا لنا : الآن حصحص الحق ، وبان الفرق ، وظهر الصدق .
فودّعناهم وكل واحد منهم كأنه فارة ، وذهبنا للسفارة ، ثم زرنا مكتبة الكونجرس ، وطرقنا الجرس ، فما هو إلاّ وقت يسير ، حتى خرج لنا خواجةٌ يسير ، قلنا له : جدمورنج سير ، فدخلنا مكتبةً هائلة ، أدراجها مائلة ، فيها كل الفنون ، وملايين المتون، مما تبصرون وما لا تبصرون ، فناولونا هديةً في وعاءْ ،
وقالوا : لا تنسونا من الدعاء .
قلنا : اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا ، لأنك لو علمت ما صنع الأمريكان ، لاهتزت منك الأركان ، فهي أم إسرائيل ، وبيت كل داء وبيل ، يستعيذ منها أبرهة صاحب الفيل ، ناصرت اليهود ، ولم تعترف بالحدود ، وما ردعتها القيود ، أمريكا أفتك من هتلر وتيتو ، خدعت العالم بالفيتو ، من أطاعها فهو خادم مهين ومن عصاها فهو شيطان لعين ، تنظر إلى الأيتام وهم يُنقلون ، وتشاهد اللاجئين وهم يُقتلون ، ولا تُسأل عما تفعل وهم يسألون ، غيرها من خيرها محروم ، وهي ظالم في ثوب مظلوم ، تريد أن تكون المنتصرة والعالم مهزوم ، ولكن لها يوم .
ليت البراكين في أرجائها رقصت
.......................... والرعد يا ليته في أرضها خطبا
وليت أن صدى الزلزال زعزعها
.......................... حتى تصير على أطلالها لهبـا
الله يمزق سداها ، وينصر عليها عداها ، ويقصر مداها ، ويظهر رداها ، الله يُخليها من سكانها ، ويقتلعها من مكانها ، ويزلزلها من أركانها ، فهي أم الكبائر ، وجالبة الخسائر ادعوا عليها في السجود ، عسى الله أن يلحقها بعادٍ وثمود .
المفضلات