التعليم العالي: الى أين؟
اعتمد الأردن خلال عقود الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي على استيراد التعليم الجامعي من كافة الأقطار المصدرة له. كانت حقول العمل زاخرة بشتى الوان الطيف المعرفي، الأمر الذي خلق مناخا من التفاعل البناء بين شتى المدارس المعرفية في التخصص الواحد... على سبيل المثال، كنت تجد في مدرسة ثانوية خريج رياضيات من الجامعة الأمريكية في بيروت وخريج لغة عربية من جامعة القاهرة وخريج فيزياء من إحدى جامعات الإتحاد السوفيتي وخريج كيمياء من جامعة بغداد. ربما كانت الصورة أكثر زخرفة في حالة التخصصات التطبيقية كالطب والهندسة والزراعة والصيدلة، تلك الحقول التي لم يترك المغامر الأردني الطموح بلدا لديه جامعة تستقبل طلابا أجانب الا وحط رحاله في حرمها... تعلم وتثقف وربما صاهر أولئك القوم ثم عاد الى الأردن انسانا ذا علم وتجربة انسانية تفيض معرفة وعطاء وانفتاحا على الآخر... عمل في بلده وفي بلاد العرب الواسعة وشهد له الجميع بالابداع والعطاء والإخلاص فرسخ بذلك سمعة حميدة عن المهني الجامعي الأردني مازالت الأجيال اللاحقة تفيد منها
في نهاية الثمانينات من ذات القرن، أقدمت الحكومة الأردنية على خطوة رائدة بانهاء احتكار العمل في التعليم العالي وسمحت بذلك للقطاع الخاص أن يستثمر في ذاك المجال. لقد أدت هذه الخطوة الى تحول جوهري في نوعية الخريج الجامعي الأردني الذي باتت عملية التعليم الجامعي بالنسبة له امتدادا للتعليم المدرسي من حيث زخم التجربة الإنسانية التي توفرها له الجامعة. ولكي تضمن سوية مخرجات تلك الصناعة، باشرت الحكومة باتخاذ خطوات تنفيذية متدرجة نحو تأسيس لجنة (1989) ثم مجلس (2001) ثم هيئة (2007) للإعتماد. ففي العام 1989، صدر قانون الجامعات الأهلية المؤقت (الأهلية آنذاك ثم الخاصة حاليا) الذي جاء في المادة (7/ب) منه ما يلي يتولى المجلس (مجلس التعليم العالي) التأكد من تحقيق الجامعات الأهلية لأهدافها، و اشترط المشرع الأردني استيفاء الجامعة كافة مستلزمات العمل الأكاديمي قبل أن يصرح لها بمباشرة عملها.
ومستلزمات العمل الأكاديمي ليست وقفا على توفير القاعات الصفية الموصوفة خصائصها الفيزيائية أو حمامات الطلبة أو مكتبة الجامعة الورقية أو الإليكترونية أو المختبرات المزودة بالأجهزة المناسبة بل هي أصلا استيفاء لجوهر الجامعة وليس شكلها... إن الحديث عن الجوهر لابد وأن يعني بالدرجة الأولى نوعية إنسان الجامعة خاصة عضو هيئة التدريس والطلاب والقيادة الأكاديمية. لقد وردت أعلاه عبارة في غاية الأهمية (يتولى مجلس التعليم العالي التأكد من تحقيق الجامعات الأهلية لأهدافها) هذه العبارة لم تأت محض صدفة بل قصد بها أن تؤسس جامعات أهلية وفق المنظور الرصين للجامعات الغربية المرموقة. الجامعة التي أراد لها المشرع الأردني أن ترخص هي جامعة ذات أهداف عملية محددة يستطيع صاحب الشأن مساءلتها دوريا عن الخطوات التي حققتها على ذاك الطريق. الجامعة الأهلية هي إذن نموذج أكاديمي متقدم أراد المشرع الأردني أن يعزز به قطاع التعليم العالي الأردني وهي بذلك مؤسسات توفر لأبنائنا ذات المناخ الذي سعينا نحن الجيل الأكبر سنا لمعايشته من أجل كافة المزايا العلمية والثقافية والفكرية والحضارية التي حلمنا بان نتدثر بها في مقبل حياتنا.
عند هذه النقطة يحق لنا أن نطرح جملة من الأسئلة الموضوعية: هل أصبح لدينا جامعات خاصة بمفهوم الجامعات الخاصة الغربية أي هل أصبح لدينا جامعات خاصة ممولة من مصادر أهلية ذات أهداف عملية تعليمية وبحثية ومجتمعية تنموية مبرمجة زمنيا وملموسة التأثير؟ما مدى مساهمة الجامعات الخاصة في عملية النهوض الحضاري والإقتصادي بالمجتمعات المحلية التي تحتضن تلك الجامعات؟ما مدى مساهمة الجامعات الخاصة في عملية النهوض الإقتصادي الوطني؟ما مدى مساهمة الجامعات الخاصة في تعزيز سمعة التعليم العالي الأردني؟ما مدى مساهمة الجامعات الخاصة في تعزيز مناخ المنافسة الإبداعية بين كافة الجامعات العاملة في الأردن؟ما مدى مساهمة الجامعات الخاصة في بناء الأكاديميا الأردنية؟.
للأسف الشديد، فإن انجازات الجامعات الخاصة على كافة الأصعدة التي طرحتها التساؤلات السابقة هي انجازات متواضعة لا ترقى الى طموح المشرع الأردني أو المواطن العادي. لقد اختزلت الجامعات الخاصة أدوارها المشار اليها في التساؤل الأول أعلاه لتصبح مؤسسات تعليمية بالدرجة الأولى. لا أريد أن تيدو هذه المقالة النقدية وكأنها موجهة الى الجامعات الخاصة فالنقد هنا يطبق على كافة مؤسساتنا الجامعية لكن قتامة الصورة هي الأكثر كآبة في حالة الجامعات الخاصة. واذا كان الحال كذلك فالجامعات الخاصة ليست سوى مشاريع استثمار رأسمالي يحدد نشاطها وفق مبدأ الربحية التجارية دون احتساب أي من الأهداف السابقة أهدافا ذات قيمة مادية في نهاية المطاف. على سبيل المثال، إن اعتبار النشاط البحثي لعضو هيئة التدريس واجبا وظيفيا، ومن ثم، احتسابه عبئا أكاديميا يقتطع من ساعات عمله لا بد وأن يحفز هذا النشاط ويطلق عنانه التفاعلي مع قطاعات الإنتاج والخدمات المختلفة فينهض بالتالي بالاقتصاد الوطني مما يضيف قيمة مادية لمكتسبات الجامعة.
بالإضافة لما تقدم، فإن تعددية مصادر الدخل الجامعي تلك ستنأى بالجامعة بعيدا عن الجري وراء ملء مقاعد الدراسة بالطلبة وستوفر بالتالي مناخا تعليميا ايجابيا من حيث كم ونوع الطلبة. كما أن الإنخراط في نشاطات غير تعليمية ستعمل تلقائيا على فرز أعضاء هيئة التدريس وتخلص الجامعة من الشريحة التي لاتتفق قدراتها العلمية والذهنية وتحديات العمل الأكاديمي ليس فقط على صعيد البحث العلمي بل أيضا على صعيد التدريس فالمدرس الجامعي الذي لايجيد البحث العلمي يتحول تلقائيا الى معلم مدرسة وليس الى مدرسة فكرية أو علمية. ولإنصاف المستثمر الأردني في مجال التعليم العالي فإنني أعتقد أن مسؤولية غموض هذه الجدلية تقع بالدرجة الأولى على كاهل القيادات الأكاديمية التي تعمد الى الحوار اللين وليس الساخن مع المستثمر في كثير من الشؤون الإدارية.
عند هذه المرحلة يجوز لنا أن نقول أن المدخل الحقيقي لنهوض الأمم لا يتأتى بغير المعرفة، فالمعرفة وحدها هي التي تقدم الحلول العملية لكافة المعضلات الإقتصادية والإجتماعة. إن بلدنا بأمس الحاجة الى العمل بهذا المبدأ الذي استشرفته قيادتنا الهاشمية ونبهت الى ضرورة العمل به والإنتقال بمجتمعنا الى مجتمع المعرفة. فإذا كان الحال كذلك فإنه يحق لنا أن نتساءل عما أنجزته جامعاتنا على هذا الصعيد؟ ما تخيفني في هذا المجال هي المحاولات الدؤوبة للإنفلات الأكاديمي من قبل البعض؟ تبدأ تلك المحاولات بالحديث عن العقبات التي يضعها المشرع الأردني أمام مسيرة الجامعات الخاصة والتي تؤدي الى خسارة ملايين الدنانير التي تحققها السياحة التعليمية إن مثل هذا الحديث مجانب للصواب إذ أن استدامة السياحة التعليمية لا تتأتى باستقطاب الطلبة الضعاف محليا أو من الخارج بل تتحق بتوفير المناخ التعليمي الرصين الذي ينبذ مثل تلك الشريحة ويستقطب النخب الطلابية التي تتنافس على مقاعد دراسية محدودة.
هنا لابد من الإشارة الى أن إحدى أهم فوائد استقطاب مثل تلك النخب الطلابية تتمثل في جلب العالم الخارجي الى حرمنا الجامعي وتمكين أبنائنا الذين لم يعايشوه خارج وطنهم من معايشة نماذج عنه في بلدهم وبذلك تتوفر لهم تجربة شبيهة بتجربة آبائهم رغم تواضعها. بناء على ما تقدم، فإن استقطاب الطلبة الضعاف الى جامعاتنا الأردنية هو عمل سلبي بكل المقاييس لأنه سيسيء الى سمعة مؤسساتنا الأكاديمية خارج الوطن عندما يعود أولئك الطلبة الضعاف الى أوطانهم بتأهيل أكاديمي متواضع وسيشوه صورة الآخر في أعين أبنائنا كما سيحرمهم من معايشة نماذج ايجابية عنه.
لابد من الإشارة أيضا الى أن ازدياد التنافس على دخول هذه الجامعة أو تلك يستخدم كأحد أهم مؤشرات جودة مؤسسات التعليم العالي من قبل كافة هيئات الإعتماد الدولية. وعليه، فإن الإسترخاء في توفير مستلزمات جودة المؤسسة الأكاديمية هو هبوط بمستوى المؤسسة وخسارة مستدامة للجميع : للمستثمر الذي يفترض به تأسيس مشروع لأجيال عديدة قادمة وللوطن الذي يفقد استثمارا كان يفترض به النجاح فانتهى الى غير مآل ضاغطا ماديا ومعنويا من أجل خطوات للإنقاذ الذي قد يأتي ولكن مرحليا وبكلفة وطنية باهظة وللعاملين الذين يعصف باستقرارهم الوظيفي شبح الفشل وللطلبة الذين يمنحون شهادات سرعان ما تفقد وهجها أمام تحديات سوق العمل الذي يبحث عن مهارات حقيقية وليس شهادات فخرية.
الدكتور طالب أبوشرار
الجامعة الأردنية
المفضلات