الغربة
عجيبة هي الشمس هذا اليوم ، شروقها صاخب ، وغروبها بائس، لا يحمل جماله الذهبي ولا ظله الدافيء، لا أحد ينتظره ، ولا يستمتع بمنظره، حتى الشواطئ خالية من طيور النورس تفتش عن عشاءها وعشاء أولادها، و قلوب المحبين خالية من عواطفها، كم هو بائس هذا اليوم…………..
كلمات جالت في بال طارق … ذلك الملاك الصغير الذي لم يبلغ الثالثة عشرة من عمره، الذي رأى من الحياة ما لا يستحقه من هو في عمره ، يعيش كالغريب.. يتيم فقير ، ليس لديه أم تعطف ولا أب يعيل ويحنو، يعيش مع جدته، تلك العجوز التي فقدت كل ما لديها حتى حبيبتيها أصيبتا بداء أفقدهما نورهما….
طارق ككل الأطفال يحب الحياة والأمل ، يهوى اللعب ويعشق الحلوى ، ولكنه لا يستطيع إيجاد كل ذلك عند جدته التي فقدت الأمل منذ زمن ولم تعد تتمنى إلا الموت ، ليس لأنها تكره الحياة ، بل لتزيل عن عاتق هذا الطفل حمل أفقده حيويته قبل أن يكسبها، لتريحه من عمله البائس الذي لا يجلب له سوى الذل والعذاب، فكثيرا ما تسمعه يأن من شدة الألم ، فتتتحسس جسده لتجد تلك الحروق في يديه تعذبه كجمرة من النار…. تبكي عليه طويلا ولكن بلا أمل…
طارق يرفض الذهاب إلى دار الأيتام ، مع أنه يتمنى ذلك … ولكن نفسه التي لا تزال تحمل كل الحب والحنان والوفاء.. تأبى أن تتخلى عن تلك المسكينة التي ليس لها إلا الله و ما يستطيع أن يحنو عليها به هذا البائس المسكين ، فكيف ستعيش هذه المسكينة التي لم يبق لها أحد من أبنائها الذين لا تعرف أين هم ولا تدري أنهم أحياء أم أنهم ماتوا منذ زمن، فهي لم تسمع عنهم شيئا مذ أن هاجرت من قريتها مع ابي طارق وسار كل من أبنائها في اتجاه على أمل اللقاء….
في إحدى الأيام عاد طارق إلى تلك الغرفة النائية، فطرق الباب ودخل ، ينادي بفرح وسرور،…. جدتي…. جدتي… : تعالي فقد أحضرت لك ما طلبته منذ زمن …. جدتي… جدتي.. هل أنت نائمة….؟ صمت فجأة ، ارتعد جسده … واحترقت أعضائه …. لم يعد يدري ما يفعل… يصرخ .. جدتي .. أنت بخير؟ اليس كذلك؟,,, جدتي لا تتركيني وحيدا ، أحبك ، جدتي .. لا تموتي .. إلى من ستتركيني.. لا تتركيني كما فعلت أمي وأبي …جدتي .. ألم تقولي لي أنك لن تتركيني كما فعل والداي… جدتي.. ألم تعلميني أن الحياة هي الأمل ، فلم فقدته أنت ؟ .. أعلم أنك نائمة، حسنا حسنا، لن أزعجك… مسح دموعه و غطى جدته بالملحف ونام بجانبها حضنها طويلا، شعر ببرودة جسدها المرهل … بكى طويلا… حدثها عن أمه وأبيه … يسأل نفسه ويجيبها … هكذا قضى ليله يبكي ويكلم نفسه … ثم نام طويلا لم يشعر بنفسه ولا كم من الوقت مضى.. تسري الحوادث في خاطره.. يذكر أيام الشقاء.. يذكر والديه … يتخيل شكل أمه .. بقي طويلا على هذه الحال لا يأكل ولا يشرب … يحدث جدته… طال الوقت وبدأت رائحة الموت تفوح في الغرفة وتعشعش في زواياها…
لقد تغيرت ملامح طارق … اصفر وجهه ونحل جسده ، هاجمه المرض فهو منذ ثلاثة أيام لم يأكل شيئا .. ينظر إلى جدته ويشتم رائحة الموت النتنة…
هاجت نفسه.. فانطلق إلى حضن جدته المتصلب يبكي ويبكي … شعر بشيء غريب .. لقد رأى أطياف بيضاء.. أمه ، أبيه ، جدته ، نظر طويلا ثم أقفل عينيه بهدوء ونام للأبد….
لقد عاش هذا الطفل حياة قاسية.. علمته دروسا لم يستفد منها.. وحكما لم يستطع فهمها ، فقد غدرته الحياة سريعا ، فأراحته، لقد ضحى بكل ما يستطيع لأجل تلك العجوز ، ليحافظ عليها ، فهي أمله وألمه ، يعيش ليعينها حتى تعطه الأمل .. لتذكره بوالديه.. حتى يرى نورا فقدته .. ولكنه مات ميتة كريمة… يالها من مأساة جميلة… فلنأخذ عبر الوفاء منها ………
صفحة القصة
دمتم بوفاء
محبكم
بحر القلوب
المفضلات