القول الجميل : من باب (الحمامة المطوقة)
جريدة الرأى
ابن المقفع - قال الغراب: إن من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقا، ولعدو صديقه عدوا؛ وليس لي بصاحب ولا صديق من لا يكون لك محبا؛ وإنه يهون عن قطيعة من كان كذلك من جوهري. ثم إن الجرذ خرج إلى الغراب فتصافحا وتصافيا، وأنس كل واحد منهما بصاحبه؛ حتى إذا مضت لهما أيام قال الغراب للجرذ: إن جحرك قريب من طريق الناس، وأخاف أن يرميك بعض الصبيان بحجر؛ ولي مكان في عزلة، ولي فيه صديق من السلاحف وهو مخصب من السمك ونحن واجدون هناك ما نأكل فأريد أن أنطلق بك إلى هناك لنعيش آمنين.
قال الجرذ: إن لي أخبار وقصصا سأقصها عليك إذا انتهينا حيث تريد فافعل ما تشاء. فأخذ الغراب بذنب الجرذ وطار به حتى بلغ به حيث أراد. فلما دنى من العين التي فيها السلحفاة بصرت السلحفاة بغراب ومعه جرذ فذعرت منه ولم تعلم أنه صاحبها، فناداه فخرجت إليه وسألته من أين أقبلت؟ فأخبرها بقصته حين تبع الحمام وما كان من أمره وأمر الجرذ حتى انتهى إليها.
فلما سمعت السلحفاة شأن الجرذ عجبت من عقله ووفاءه ورحبت به وقالت له: ما ساقك إلى هذه الأرض؟
قال الغراب للجرذ: اقصص علي الأخبار التي زعمت أنك تحدثني بها فأخبرني بها مع جواب ما سألت السلحفاة: فإنها عندك بمنزلتي، فبدأ الجرذ وقال: كان منزلي أول أمري بمدينة ماروت في بيت رجل ناسك وكان خاليا من الأهل والعيال، وكان يؤتى في كل يوم بسلة من الطعام فيأكل منها حاجته ويعلق الباقي، وكنت أرصد الناسك، حتى يخرج وأثب إلى السلة، فلا أدع فيها طعاما إلا أكلته، وأرمي به إلى الجرذان. فجهد الناسك مرارا أن يعلق السلة مكانا لا أناله فلم يقدر على ذلك، حتى نزل به ذات ليلة ضيف فأكلا جميعا، ثم أخذا في الحديث فقال الناسك للضيف: من أي أرض أقبلت؟ وأين تريد الآن؟ وكان الرجل قد جاب الآفاق ورأى عجائب فأنشأ يحدث الناسك عما وطئ من البلاد، ورأى من العجائب، وجعل الناسك خلال ذلك يصفق بيديه لينفرني عن السلة، فغضب الضيف وقال: أنا أحدثك وأنت تهزأ بحديثي! فما حملك على أن سألتني؟ فاعتذر إليه الناسك، وقال: إنما أصفق بيدي لأنفر جرذا قد تحيرت في أمره، ولست أضع في البيت شيئا إلا أكله، فقال الضيف: جرذ واحد يفعل ذلك أم جرذان كثيرة؟
المفضلات