الفصل الحادي عشر الوعد القرآني في سورة الحشر
نزول السورة في إجلاء يهود بني النضير:
سورة الحشر مدنية، كان نزولها في السنة الرابعة من الهجرة، بعد إجلاء يهود بني النضير، ولهذا سماها ابن عباس رضي الله عنهما (سورة بني النضير) لهذا السبب.
وسبب إجلاء يهود بني النضير هو نقضهم العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي طبيعة اليهود دائماً.
بعد غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، وقعت حادثة (بئر معونة)، التي غدر فيها المشركون بسبعين رجلاً من الصحابة، حفظة القرآن، الذين بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى الله، فقتلوهم، ولم ينج منهم إلا عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه، الذي عاد إلى المدينة، وأثناء عودته رأى رجلين مشركين من بني عامر، فظنهما من القبيلة التي نقضت العهد وقتلت الصحابة، وعدا عليهما فقتلهما، أخذاً بثأر إخوانه الشهداء.
ولما أخبر عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله الرجلين غضب الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الرجلين العامريّين كانا معاهدين له، ويعني هذا أن قتلهما كان خطأ، وبذلك صار الرسول صلى الله عليه وسلم ملزماً بدفع دية القتيلين!.
وكان بين بني عامر وبين يهود بني النضير صلة، وكانت منازل بني النضير شرقي المدينة، على بعد أميال منها، وكان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عهد.
فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وذلك للحديث معهم حول دفع دية القتيلين العامريّين.
ولما وصل إليهم أجلسوه مع صاحبيه بجانب جدار لهم، ولما كلمهم بشأن دية القتيلين أعلنوا استعدادهم للمساعدة.
وهنا استيقظ الغدر في نفوسهم، فال بعضهم لبعض: هذه فرصة مناسبة لقتله والتخلص منه، فليس معه جيش يدافع عنه! واتفقوا على أن يصعد أحدهم على الجدار، وأن يُلقيَ حجراً كبيراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
وأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالأمر، وعصمه من غدرهم، فقام عليه الصلاة والسلام كأنه يريد أن يقضي حاجته، وغادرهم، وواصل سيره نحو المدينة، ولما تأخر على صاحبيه أبي بكر وعمر، قاما ورجعا إلى المدينة.
وفي المدينة أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صاحبيه بغدر اليهود ونقضهم العهد وتخطيطهم لقتله!.
وجهز الرسول صلى الله عليه وسلم جيشاً لقتال يهود بني النضير، وفي اليوم التالي فوجئ يهود بني النضير بجيش الرسول صلى الله عليه وسلم محاصراً لهم.
وأثناء حصارهم اتصل بهم زعيم المنافقين عبد الله بن أُبَيّ، وطلب منهم أن لا يستسلموا للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يَثْبُتوا في حصونهم، ووعدهم أن يقدم لهم المدد من جماعته. وانتظر اليهود المدد من المنافقين، لكنه لم يأت!.
عند ذلك اضطر اليهود إلى الاستسلام، فاستسلموا على أن يتم جلاؤهم من ديارهم، ولكل منهم حملُ بعير من أثاث بيته، على أن لا يأخذوا معهم الذهب والسلاح.. وتوجهوا إلى خيبر وبلاد الشام.
وقسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أراضيهم وممتلكاتهم على المهاجرين، ولم يعط إلا اثنين من الأنصار، كانا شديدي الفقر.
فأنزل الله سورة الحشر، وتحدثت آياتها عن بعض أحداث هذه الحادثة، واستخلصت بعض الدلالات منها. [انظر تفسير ابن كثير: 4/322-324].
وكان يهود بني النضير أقوى قبيلة يهودية حول المدينة، وكانوا كثيري العدد والسلاح، وكان الصحابة يتعجبون من قوتهم ومناعة حصونهم، ويفكرون في كيفية التغلب عليهم وهزيمتهم.
ومن آيات السورة التي قدمت حقائق هادية بشأن الحادثة وعبرها:
إجلاء اليهود عقاباً لهم:
أولاً: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ، وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 2-4].
الخطاب في الآيات للصحابة، يخبرهم الله فيها أنه هو الذي أخرج يهود بني النضير من ديارهم، ووصفهم بأنهم كفار من أهل الكتاب، وامتن الله على المؤمنين بإخراج أعدائهم، وأشار إلى قوة ومنعة حصونهم، بحيث أن الصحابة لم يتوقعوا خروجهم، أما اليهود فقد كانوا معتمدين على قوة ومناعة حصونهم، بحيث أيقنوا أنها ستدفع عنهم عقاب الله!.
ومن مكر الله بهم أنه أوقع بهم عقابه وعذابه من حيث لم يتوقعوا، فقد كانوا يتوقعون هجوم المسلمين عليهم، ولذلك أحكموا الحراسة على حصونهم، ولكن الله حاربهم من داخل نفوسهم، حيث ألقى في قلوبهم الرعب والخوف من المسلمين، عند ذلك لم تنفعهم قوة ومناعة حصونهم، فاستسلموا وصاروا ينْقُبون حصونهم ويخربون بيوتهم ليأخذوا متاعهم منها.
وأوقع الله بهم هذا العقاب، وكتب عليهم الجلاء، لأنهم شاقّوا الله ورسوله، وحاربوا أولياءه، ووقفوا أمام دينه، وبذلك حقق الله عليهم سنته التي لا تتخلف، لأن كل من شاق الله ورسوله فإنه هالك معذّب.
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــع
وعود القرآن بالتمكين للإسلام
الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي
المفضلات