أتساءل دائماً: متى يتعافى عالمنا من عِلله الاجتماعية والإنسانية؟ متى تستعيد «الثقافة الإنسانية» حضورها وهيبتها؟ متى تُرفع عنها وصاية دعاة «الإمبريالية الثقافية» من المحافظين الجدد إن في أمريكا أو أوروبا؟ متى تُرفع الوصاية عن عقول «البشر»؟.
في ظل الغرور الإمبراطوري الإمبريالي الذي يشهده عصرنا- وبخاصة الغرور الأمريكي- بتنا نشهد تشويهاً لِ»التاريخ» وتضليلاً للرأي العام العالمي.
لم تعد الثرثرة الإمبريالية التي نسمعها أو نقرأها حول التعلق بالقيم والمبادئ التي ناضلت وتناضل من أجلها الشعوب تُقنع العقلاء في هذا العالم. يتحدثون عن نشر «ثقافة عالمية» تنتظم البشرية، ثقافة يتولى الإمبرياليون وحدهم نشرها.! يتحدثون عن «قيم كونية» ينبغي إشاعتها في العالم!. ويعلم الله أنها ثرثرة بلا مصداقية.
في أمريكا -وكما تشير خطابات بعض المحافظين الجدد وكتّابهم- ثمة دعوة سافرة لتغليب الثقافة الإمبريالية على مفردات الثقافات الإنسانية التي تحتفي حقاً بِ»النُبل» وسائر القيم الإنسانية.
هناك سعي محموم لـِ«عولمة الديمقراطية» وفق النهج الرأسمالي وإفراغ هذه الديمقراطية من مضمونها الإنساني! هناك سعي محموم من قبل هذه «الإمبريالية الثقافية» لاحتواء العالم ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً. لنقرأ ما يقوله تانر ميرليز الذي يعمل في برنامج الاتصالات والثقافة المشترك لجامعتي يورك وريرسون، والمهتم بتداعيات وتأثيرات السياسة الثقافية الخارجية للولايات المتحدة والإمبريالية الثقافية الأمريكية، وذلك في مقال له بعنوان: «قوة ناعمة أمريكية أم إمبريالية ثقافية أمريكية؟» منشور في كتاب «الإمبرياليون الجدد» لـِ Colin Mooers ترجمة معين الإمام ص 302، يقول تانر ميرليز: «عمل المحافظون الجدد على عقلنة الإمبريالية الثقافية الأمريكية عبر الالتجاء إلى اعتقادين إيديولوجيين اثنين، أولاً: الاعتقاد باستثنائية أمريكا وفرادتها (فكرة أن المؤسسات والقيم الأمريكية هي الأفضل في العالم). عقلنة عملية تصدير هذه المؤسسات والقيم إلى بقية أرجاء العالم باعتبارها مسؤولية أمريكا الأخلاقية. ثانياً: الاعتقاد بعالمية وشمولية أمريكا.. باعتبارها قوة تقدّمية للتحديث العالمي». إنه الغرور بعينه الذي انساق إليه المحافظون الجدد مقدمين «أمريكا» للعالم على نحو استبدادي نافٍ للآخرين!.
«أنسنة» و»تحديث» العالم لا يتمان على هذا النحو! لا يتم هذا «التحديث» من خلال طمس «هويات» الشعوب وسوق هذه الشعوب كالقطيع المذعن أمام «الإمبريالية».!
«تصدير المؤسسات والقيم الأمريكية إلى العالم باعتبارها الأفضل» هي بحق نزعة غرور فاقت كل النزعات. قبل مدة استمعت إلى خطاب الرئيس الأمريكي أوباما أمام مجلس العموم البريطاني. استمعت إلى كلام جميل حول «القيم الكونية» التي تشترك في التمسك بها أمريكا وبريطانيا. اسبغ الرئيس أوباما مديحاً على نضال الشعوب من أجل التخلص من قمع المستبدين. لم أسمع منه كلمة واحدة عن نضال الشعب الفلسطيني بل سمعت منه كلامه المكرور دائماً حول «الالتزام» بأمن إسرائيل».!
كم فيه من تضليل وتأليب على مفردات «القيم الإنسانية» التي تعتز بها الشعوب. «.. إن تعميم نموذج فكري باعتباره هو الأصلح دائما مع تهميش وإقصاء البنى الفكرية والثقافية للآخرين ما هو إلا مسخ للإرث الجماعي للشعوب». د. عبد القادر فهمي: «الفكر السياسي والاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية» ص 140، دار الشروق، رام الله.
يوسف عبد الله محمود
المفضلات