ها هو ذا يدخل علينا اليوم الثاني من رمضان، محتفلين
بطقوس جديدة لم نعهدها من قبل، فهي طقوس فرضها
علينا جيل جديد من أبنائنا الذين اختبروا "شهر صوم حديثا"،
متأثرين بكل ما أفرزه التقدم التكنولوجي وتأثيره في السياق العام للحياة.
"زمان"، ومع اقتراب قدوم "رمضان"، كانت تجتاح الناس حالة من البحث و"التّحرّي"، ويصبح النظر إلى السماء عادة "ليلية" دائمة؛ الشيوخ والرجال والنساء والأطفال، جميعهم في حالة "تحرّي" الهلال الضيف، وجميعهم يجزم أن "الهلال لم يولد بعد".
.. وكان لا بدّ من مدّعين، أولئك الذين يريدون أن يسبقوا
الجميع إلى المعرفة. أحد الرجال الثلاثينيين كان يختار التلة
المقابلة لأحد أحياء القرية، ويفرد فوقها "بطانيته" قبل
رمضان بأيام، ليبدأ رحلة استكشافه للهلال، وغالبا ما كان
صوته يرتفع في الليل "الهلال.. الهلال".
لكنّ للقرويين خبراتهم أيضا، فبينما كنّا، نحن الأطفال، نفرح بـ"ثبوت الرؤية"، كان آباؤنا يبتسمون في وجوهنا بودّ زائد، ويخبروننا قصة الراعي الذي اعتاد أن يكذب على أهل القرية، ويتسلّى بالصراخ "الذئب.. الذئب"، حتى ملّوا كذبه، وتركوه لمصيره عندما كان الأمر حقيقيا.
على كل حال، لم تسهم القرية "ولا مرّة" في إثبات "الرؤية"، وكان "الخبر" دائما يأتي "من برّا"، وكان دائما مصدّقا، لتبدأ الوجوه بالتبدّل، ولتكثر الدعوات التي تمجد رمضان: "يا مرحبا بشهر الخير".. "يا مرحبا بشهر البركة".
"زمان"، كان استقبال الإعلان عن بداية الشهر الفضيل يتم عبر "مذياع يتيم" في القرية، وبعدها يتولّى "خالد الحمدان" الأمر؛ يمسك بعصاه - أيّ عصا كانت، وبإحدى تنكات "سمنة الغزالين" الفارغة، ويبدأ بالدوران من حيّ إلى حيّ في القرية الكبيرة، للتبشير بقدوم الشهر المبارك. وكان هو نفسه الذي يتولّى عملية "التسحير"، فلم يجرؤ أحد على منافسته في الأمر، ولم تعرف القرية "مسحراتيا" آخر إلا عندما توفي.
بعد سنوات قليلة، كنّا نتأهب لاختبار "ثورة تكنولوجية جديدة أخرى" للإعلان عن شهر الصوم، وذلك عندما وصلت إلى القرية أولى طلائع مكبرات الصوت التي جُهّزت بها المساجد.
ذات مساء، وبينما كنّا نتساءل عن أي يوم سيدخل فيه رمضان، صدح، فجأة، صوت إمام مسجد القرية الكبير، مترنما بابتهال طويل:
"لي فيك يا أرض الحجاز حبيب.. نور العيون وللقلوب طبيب".
كانت الإثارة تغلب علينا جميعا، خصوصا أن الصوت القويّ الهادر يدخل بيوتنا، ويتبختر في جميع الزوايا مدويّا بيقين وحزم.
***
بالأمس، ومع إعلان بداية رمضان، تذكرت كل تلك التفاصيل الماضية، عندما رأيت أبنائي منهمكين على شبكة الإنترنت، ويتحدثون "بطلاقة" مع أصدقاء في قارات العالم الخمس، يهنئون بعضهم بعضا بشهر البركة.
حينها فقط، أدركت كم من الأزمنة قطعتُ لأرى كل هذا التّبدّل!
نقلا عن جريدة الغد
للكاتب موفق ملكاوي
المفضلات