مذكرات فالح الطويل اثناء النكبه الفسطينيه وانتقاله الى اخوال والده الطوالبه شمال الاردن
أدى انتقال فالح الطويل إلى قرية "سحم" حيث أخوال والده من عائلة الطوالبة، إلى أن يشهد الطفل أحداثاً هامة كانت تقف القرية أمامها ولا حظها، كان الصانع او مبتدع الاحداث الثلاثة مدير المدرسة الأستاذ حسين أفندي، وقد جاءت دفعة واحدة وهي تأسيس شركة باصات، وشراء راديو، وتشكيل فرقة كشافة.
دعا مدير المدرسة أهالي القرية للاجتماع وعرض الفكرة، شراء الراديو، وقال لهم:" إنهم يستطيعون بالراديو أن يعرفوا كل شيء يجري في لندن، وعمان والقدس"، وكان الثمن 150 دينارا مع البطارية وبدا "أهالي قرية سحم فخورين بأنفسهم وتربيتهم وتبرعوا بالثمن".
مثل وصول الراديو تحولا كبيرا وحدثا بالغ الأثر لما سيأتي بعده، إذ وضع القرية وناسها أمام مجريات واحداث هامة زمن الحرب العالمية الثانية، ومن ثم النكبة، بعد ان كانت القرية غارقة في الغياب. وهنا تصف السيرة دخول الراديو بما يلي:" أُعلن في القرية أن الراديو سيكون جاهزاً عند المساء وأن أهل البلد يمكنهم أن يسمعوا الأخبار عندما تفتح الإذاعة برنامجها وذلك الساعة السادسة... سمعنا في البداية صوتاً يقول: سيداتي سادتي ثم غاب الصوت في ضجيج عنيف، لم يتحسن صوت الراديو إلا بعد أشهر.(ص،87).
صدى النكبة
في شتاء 1947م وبداية العام التالي تفتح القرية أعتابها على تدفق اللاجئين من فلسطين وكان أهالي قرية سحم يهرعون لمساعدة اللاجئين من فلسطين. كان زمن النكبة وممهداتها يشبهان المأتم الذي حل في قرية سحم، لتبدأ القرى الأردنية باستقبال مجموعات كبيرة من اللاجئين الذين وفدوا بسبب الاحتلال الصهيوني لتبدأ المنطقة تشهد حالة من الحراك السكاني الذي غير الكثير في بيئتها الاجتماعية كما أثراها بعناصر مجتمعية جديدة.(ص، 89).
مذكرات فالح الطويل
اقتسم اهالي قرية سحم مع القادمين اليهم من فلسطين الممكنات الحياتية، فمن له دار اقتسمها مع اخيه الذي لاذ به، يقول الطويل "تدفق اللاجئون على سحم يوماً في شتاء 1948 وبداية السنة التالية". لا يضعف رواية اللجوء إلا غياب عنصر الزمان، فكاتب المذكرات لا يحدد الايام ولا الاشهر، وهذا ما يضعف العمل لكنه لا ينقصه أهميته المعرفية.
تحزن قرية سحم كغيرها من قرى الاردن على ما حدث في فلسطين. ولكن الحزن لم يكن مجرد مشاعر تفيض بها القلوب. يقول الطويل:"حزنت سحم كلها، وأحست بالانكسار لما جرى في فلسطين، فكانوا يهرعون لمساعدة اللاجئين من اهلها الذين اختاروا سحم مكاناً يلجأون اليه، (ص 89)، ثم يسرد الطويل اخبار الناس زمن النكبة، وبداية الوعي للخطر الصهيوني وانضمام مجموعة من الشباب لجيش الانقاذ.
تمثل فرقة الكشافة حدثاً هاماً في حياة الطويل" فمن خلال انتسابه الى الفرقة زار في جولات كشفية معظم قرى الشمال, التي رافقهم فيها الاستاذ محمد الراشد.
وفي زيارة الكشافة لمنطقة الحمة يتفاجأ فالح بوجود قريب له قال إن اسمه عبدالفتاح الفالح، واشار اشارة عابرة الى انه ابن السيدة كاتبة, التي كانت تقرأ الجرائد وتتعاطف مع الالمان في صراعهم مع الحلفاء(ص 98), فلم نعرف شيئاً عن تلك السيدة، ولا عن مستواها الثقافي، وكان حري بالطويل ان يعرف القارئ اكثر بهذه السيدة، التي يبدو انها من اصول شامية ومن عائلة كانت تمتهن الكتابة في الديوان/ ديوان الولاية، او السراي..
فيما يبدو كانت الاقامة في قرية سحم ليست سهلة وغير مريحة, لقد نظر الفتى الى نفسه غريباً في محيطه لكنه سرعان ما تعايش مع الجميع, وهنا يبدو الطويل مسرفاً في الحديث عن الذات, فهو يروي تفاصيل علائقه مع الناس, التي يبدو انها جاءت على حساب المكان الذي هو قرية سحم. ولكنه الاحساس المبكر في الاغتراب كان دافعا لتقدم الكاتب، ففي المدرسة قرر الطويل ان يكون الاول, وتصادف ان جاءه خبر التفوق في لحظة كان يعاني بها من مرض شديد, وكان منافسه في المدرسة قسيم عبيدات الذي كان يتخلف عن فالح بـ 134 علامة.
ادخل فلاح مستشفى عمان الجراحي في طريق السلط, وكان الطبيب آنذاك غالب القسوس، واجريت له عملية بقدمه, تم على أثرها تغليف رجله بالجبس الكامل ما ادى الى تعفنها, ولم تشف الا بتدخل من والده الذي اخرجه من المستشفى, وبطريق الصدفة شاهده رجل بدوي رافقه، ثم اعطاه العلاج الذي وضع حداً لطريق الهلاك التي كان يسير اليها الفتى. (ص، 108). وكان فالح يجهل مرضه الذي كاد يودي بساقه، ليكتشف لاحقا انه تفتت العظام ويبدو انه تجاوز الازمة ولكن حسب قوله: "الندبة ظلت غائرة في ساقه تذكره بما حل به"، ورحلة العلاج الطويلة التي انتهت بمشورة رجل بدوي بسيط.
ابن القرية والمدينة
إنها المدرسة, العالم الكبير الذي انتقل اليه الطويل. وحول المدرسة والمكان عالم مليء بالغرائبيات والعجائب التي يفسر بها الناس وجود التل"يقول بعض العارفين ان السماء أمطرت المدينة وما حولها بعشرات النيازك، كان ذلك يوم حاول الاربدي الاول ان يقيم تلا في المدنية ليراقب الارض الممتدة حوله. (ص 110). وهنا تبدو "قصبة اربد" ذات نكهة خاصة في مدارات الذاكرة, فسفوح التل ومنحدراتها تركت نفسها لبيوت المدينة تتسلقها باتجاه القمة, حيث كان الناس يجلسون في امسيات الربيع الناعة (ص 111).
واربد ذات مذاق خاص حسب الكاتب "اذ ما يكاد المرء يفد اليها حتى تتناوله في جهد واضح لإعادة خلقه بما يتناسب مع قيمها وحركة اهلها", ويجعل الكاتب للمدينة قدرات فائقة في تصنيع الناس على الشاكلة التي ارتضتها لهم, في حين ان اهل القرى لديهم نزعة مخالفة وتتحول الامور الى نزاع مسلح. وفي مثل هذا التذكر يستدعي الطويل من ذاكرة الزمن العثماني ما يفيد بأن احد ولاة اربد كان قد اصدر مرسوماً يمنع اهالي القرى من دخول المدينة الا من يثبت حسن سيرته, وهذا الايراد للمعلومة جاء بدون تحر للصحة، من المصادر وهو ما يجعل منها معلومة غير موثقة، لكن ذنب الكاتب ان الناس يتناقلونها في ذاكرتهم، وكاتب المدارات في النهاية ليس بمؤرخ، لكن من المفيد لو كان هناك توثيق لقصة منع الوالي ابناء القرى من نزول المدينة.
فالح ابن قرية بامتياز, يذكر يوم دخوله المدينة، ورفاق اربد مميزون لديه بكل تفاصيل اللقاء يقول:" وقد كنت ايام الاسواق أصغي مأخوذاً بما أسمع، وصرت مع مرور الوقت اميز اهل القرى من لهجتهم فأعرف الرجل من اي قرية من سال ام قرى الجبل ام من علعال".
بدا فالح مسحوراً بالقرية. لكنه بدأ ايضاً هو ورفاق القرية يبحثون عن معركتهم الخاصة في المدينة. كان البحث عن اثبات مركب القرية امراً لا مفر منه ولو كان الاثبات هذا صوريا، او كان اداؤه ساذجا، وسبب هذا التوتر بين القرية والمدينة مرده الى علاقة في الموروث بين ناس التل وأهل القرى.
وهنا أعتقد أننا بحاجة الى دراسة سيكولوجية التجلي, تكشف عن معنى تجلي القروي في المدينة, الذي يبدو وأنه تجليا مكشوفا, يظهر ابناء القرى مميزين في حركتهم وفي تأملهم وفي نظراتهم وفي علاقاتهم مع الاشياء، التي لا يفسرها شيء غير الموروث المختزن يقول الطويل:"هل كان هذا المخزون الجماعي الموروث هو الذي جعلنا في اول زيارة جماعية لنا الى اربد نبحث عن طفل صغير نضربه دون سبب؟ ام كان الوحش غير المهذب فينا الذي لم تتناوله بعد يد المجتمع لتقلم اظفاره الحادة؟
تلك كانت الاسئلة المفسرة, التي حاول من خلالها ابناء القرى ان يعلنوا عن شهادة وجودهم في فضاء المدينة, التي كان دائماً فيها من ينظم حركتهم (ص 112)، وبدون مقدمات يجد الصبية انهم امام حدث هام قضوا يوماً بانتظاره، وهو زيارة الامير عبدالله -المؤسس - للمدينة. وهنا يرصد الطويل تأهب المدينة لاستقبال سيد البلاد فيقول: "اربد تعج بالناس, لقد وفد اليها كل اهل القرى, سمعتهم يقولون ان الامير وصل ركضوا فركضت معهم، وصلت سيارة حمراء توقفت في مكان بعيد، لا بد انه الامير, وبرز من الجمع الغفير رجل قصير القامة يداه قصيرتان، سار وسط المجموع، وعرفت ان ذلك الخطيب كان الاستاذ واصف الصليبي"(ص 114).
بعد تلك الزيارة يجد فالح الطويل نفسه فجأة من سكان المدينة رغم حنينه لقريته - حكما - التي بدت له في آخر الدنيا, كانت البداية لفالح في المدرسة يوم اعلن قبوله في الصف الاول ثانوي بعد نجاحه في المترك, كان النجاح وليد لحظة عابرة ستترك عن الفتى شرعية البحث عن سؤال المستقبل في ظل ما كان ينتظره من فقر اثر حاجة والده لمن يساعده في زراعة الارض, وهو يحلم بأن يدخل عمان بطائرة ويستقبله الناس في جموع غفيرة, كان ذلك حلم الفتى الفقير الذي راح يدرس اكثر من الدراسة، حيث كانت الدراسة الشيء الوحيد الذي يفعله حسب قوله: "كنت احفظ بسرعة وانجح بتفوق في نهاية الامر" (ص:122).
هنا يرى فالح انه لم يمر بأحداث الطفولة التي لم يعش شيئاً منها, حتى اذا مر الاستاذ يوماً من جانبه في الصف واكتشف الشيب في رأسه وهو ابن السبعة عشر عاما. ليخرج بعد ذلك لائذاً بممارسة الركض كرياضة تقيه شر الضياع، دونما يدري أن ثمة راكدا بدأ يتحرك، وان الاسئلة الموخزة بتعبير الصديق حسين محادين بدأت تتولد لدى ابن حكما، الذي لم يجد شيئا يواجه به الفقر وشر العوز غير الدراسة، ولتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة لفالح في صحبة نفر من الأصدقاء الجدد.
استاذ التاريخ والحضارة في جامعة فيلادلفيا
http://www.alghad.com/index.php/article/59799.html
رد مع اقتباس
المفضلات