لم نتوقف كثيرا عند القنبلة المعرفية التي فجرها الصحفي البريطاني المرموق «روبرت فيسك» في «الاندبندت» قبل نحو شهرين، حيث كتب مقالا يقول فيه: بأن العرب ليس لهم «ارشيف» عام، يمكن العودة اليه لقراءة تاريخهم السياسي الحديث، على المستويين الداخلي والخارجي، وانهم اي العرب، يعتمدون على الارشيف الاسرئيلي والبريطاني والامريكي، والمقصود هنا هم النخب العربية السياسيون منهم والمؤرخون والمفكرون، فما معنى ذلك؟.
ببساطة، ان اول ما يعنيه ذلك هو عدم وجود «دولة عربية» بالفهم البشري المعاصر للدولة، فأول ما تعنيه الدولة كاطار أعلى لاي جماعة بشرية، هو انها تراكم تجاربها على المستويات الاقتصادية والسياسية والمعرفية، وأول هذا التراكم كما تعرفه الدول، هو الورق او «الارشيف»، اما اتاحة هذا «التراكم» المعرفي، للتداول او حجبه، فتلك مسألة اخرى ليس هنا مجال التعرض لها.
واذا قبلنا ما قاله «فيسك» عن عدم وجود «ارشيف» عربي رسمي، وهو كلام دقيق، فان التعويض عن هذا، واستبداله بمعارف العدو او المستعمر او الاجنبي، يعني كارثة معرفية، فهذا يعني انك تعرف وتفكر وتخطط وتعلم بعقل عدوك وخصمك، ما يقود الى استلاب معرفي وثقافي كامل، بل وأكثر من ذلك، ففيه نفي لوجود الجماعة العربية، فعلياً، داخل الحاضر، وبالتالي المستقبل.
أليس غريباً، وبصرف النظر عن اسباب ذلك، ان يملك شخص عربي واحد، من وثائق الدولة، أكثر مما تملك الدولة نفسها؟ او ليس هذا الواقع الذي اشار اليه «فيسك» هو ما يجعل كل عملية افراج، دورية، عن وثائق اسرائيلية او اجنبية، بمثابة تفجير قنابل موقوتة في سياسة وتاريخ كل نظام عربي؟ او لم نصل بذلك الى مرحلة يستطيع فيها اي دبلوماسي او سياسي او اسرائيلي او اجنبي او حتى ضابط استخبارات بنشر مذكراته، ان يحدث ارباكا لا حدود له، في بنية وسياسة اي نظام عربي، او حتى من يحكمون بعده؟
ولعل الأسوأ من ذلك كله، هو ما وصل اليه المشتغلون بالتاريخ والفكر والسياسة، في العالم العربي، وذلك عبر «الانتقائية»، في تعامل معظم هؤلاء مع «الارشيفين» الاسرائيلي والغربي، في صناعتهم لكتبهم المعرفية والثقافية، اليس هذا هو أحد الأسباب الجوهرية في انخفاض قيمة الكتاب العربي؟ وإلا لماذا يشهد الكتاب الغربي الخاص بموضوعات منطقتنا العربية، رواجا في البلدان العربية بالذات، أليس لان الكتاب الغربي عموما، يلتزم بالمعايير المنهجية والعلمية، اثناء انشائه لكتابه السياسي او التاريخي او الثقافي؟،
ولا يتوقف الامر عند هذا الحد، اذ ان المشتغلين بالكتاب في عالمنا العربي، يتحايلون على الالتزام بالموضوعية والعلمية، وبالمعايير المعروفة في كل حقل من حقول المعرفة، بحذلقة لفظية لا حدود لها، كأن يقول أحدهم، مثلا «انا لا أكتب تاريخا، او لا أكتب سياسة، او لا أكتب تاريخاً للفكر، بل أقوم بقراءة التاريخ او السياسة او الفكر، وكأن قراءة التاريخ او السياسة او الفكر، ليست تاريخا ....،،
لا تُهزم الامم والشعوب او تفشل، على مستوى واحد فحسب، بل هناك تطبيق عملي ملموس وعلى مستويات متعددة للهزيمة، وربما كان أبرز التطبيقات العملية لهزيمة الأمة، هو هزيمتها وفشلها المعرفي... وهو ما أشار له «فيسك» من دون ان يهتز لأحد فينا طرف ...؟،.
المفضلات