الإنترنت.. الرعب القادم!
إلى أن تتوصل الإنسانية إلى آلة الانتقال اللحظي حيث يدخلها الشخص في مدينة بشرق آسيا ليخرج في أحد المدن الأمريكية خلال ثانية واحدة، أو أن يتم العمل على إنجاز آلة الانتقال في الزمن فإن العصر الذي نعيشه سيبقى عصر الانترنت، ونحن في بداية هذا العصر، فنحو ثلاثة عقود من التطبيقات ليست كافية للتنبؤ بالمسارات التي ستتخذها الإنسانية في الفترة المقبلة، ولكنها ستكون جذرية وطاغية على شاكلة التغيرات التي حدثت بعد اختراع المطبعة في القرن الخامس عشر.
شكل الدولة الحديثة وبنية المجتمع ترتبط بظهور المطبعة والمعرفة التي أتاحتها بتكلفة محدودة، حتى أن ظهور المطبعة يمكن أن يعتبر عاملا أساسيا في تراجع اللغة اللاتينية واستقلال اللغات المحلية لتصبح اليوم الأسبانية والايطالية والفرنسية الحديثة، ومن المتوقع أن يترك عصر الانترنت أثره على الحياة الإنسانية، وابتداءا أصلا من شكل الدولة والمجتمع.
التغيرات تحدث بصورة تدريجية ولكن ثابتة، ومشكلة كبيرة من أهل الثقافة والفكر أن يتفرغوا لنقد عصر الانترنت ودراسة أبعاده، بينما العاملون في المجال الاجتماعي والثقافي يضيعون وقتهم في الحديث عن مخاطر الانترنت على العادات والتقاليد، وفي النهاية فإن أحدا لا يمكنه أن يوقف مسيرة التقدم، والحل يتمثل في التقدم بمحاذاة شروط العصر.
لو تمكنت الإنسانية من الاستمرار في الحياة على كوكب الأرض لبضعة آلاف أخرى من السنين، فإن تغيرات طفيفة ستطرأ على الجسد البشري، ربما في شكل الأصابع التي تتعامل مع الكيبورد، أو استقامة الإنسان في المشي، وهذه تغيرات تحتاج إلى فترات طويلة جدا، ولكن التغيرات التي ستنحو إلى أن تكون أكثر سرعة واستجابة ستتمثل في التراجع الحاد للذكاء الإنساني، فالحياة الصعبة كانت تستغرق الذهن وتحفزه وتستحثه بصورة مستمرة، ووجود كميات خرافية من المعرفة على بعد بضعة ثوان سيجعل الإنسان ميالا أصلا لعدم تخزين المعرفة، وبالتالي، سيكون العقل الإنساني محملا بمادة معرفية أقل، والعقل الفارغ سيكون أقل مرانا على التعامل مع التحليل والتنظيم، ولكن ما الذي سيملأ العقل الإنساني لاحقا؟ أية نوعية من الأفكار والمهارات سيطورها العقل الإنساني ليعوض فراغ المعرفة،أم سيضمر العقل الإنساني وتتحكم البرمجة في واقع العالم؟
لا يمكن القول بأن الواقع الإنساني كان أكثر جمالا واستقرارا قبل اختراع المطبعة، فالمطبعة كانت عاملا أساسيا لتطور البحث العلمي من خلال تمكين العلماء من التدوين والتبادل، والأوبئة التي كانت تحصد الملايين في شهور معدودة أصبحت من الماضي بعد طفرة العلوم الحيوية، وعالم ما بعد المطبعة أعطى القنبلة النووية، فما الذي سيعطيه عالم الانترنت؟ بالضرورة لن يكون مرعبا أكثر من العصور الماضية، ولن يحقق أيضا المدينة الفاضلة، فقط سيكون مختلفا.
هل سيؤدي ضمور الجسد الكسول نتيجة صعود التكنولوجيا إلى تفجير طاقة روحية، وهل تنعتق الروح الكلية للإنسانية من حدود وجودها الأرضي في النهاية، أم أن الجسد الضعيف سيمثل ارتدادا للطور الحيواني وبحيث يعود البشر من جديد إلى صورتهم القديمة قبل أن يتطور الذكاء الجمعي؟
هذه أسئلة بحاجة إلى البحث، دون إضاعة الوقت في دراسة تأثيرات الانترنت على الأخلاق أو العادات أو التقاليد، فجميع هذه العوامل تعتمد أساسا على البيئة المحيطة بالإنسان وطريقته في تعريف المقبول والمرفوض، ويرتبط ذلك أيضا بتوفر الحلول والثقافة.
النصيحة التي يمكن أن توجه في عصر الانترنت هي الاندماج الحذر، فالبقاء بعيدا يمكن أن يجعل من العالم المتقدم مثل كمباوند كبير ومحصن، بينما يتحول العالم خارجه إلى مجرد محمية طبيعية يمكن زيارتها للتسلية أو الفرجة أو تحويلها إلى مزرعة للعالم المنشغل بالراحة والفراغ، فقط يجب أن يحتفظ الإنسان برغبته في الاحتفاظ بمسافة مناسبة مع الآلة والشاشة التي هي أخطر أصلا من الآلة نفسها مع أن جولة صغيرة في أي مقهى ستبين أن الشاشة أصبحت هي محور الحياة ووسيلة التواصل.
المفضلات