الأخلاق
يجىء لفظ "الخلق" ولفظ الأخلاق وصيغ أخرى تنبثق منهما وصفا لفكر الإنسان وسلوكه دون غيره من المخلوقات: ذلك لأن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذى منحه الله طاقات متميزة من الإدراك والتفكير وحرية الإرادة لذا جاء سلوكه مرتبطا بالفكر ، ومتوافقا مع ما يدين به من اعتقاد.
كذلك فإن الإنسان منذ نشأته يمارس الحكم الأخلاقى على الأشياء ، فهذا خير وذاك شر ، وهذا حسن ، وذاك قبيح ، وهذا نافع ، وذاك ضار الأمر الذى جعله يستحق وصف أنه كائن أخلاقى.
ويطلق لفط الخلق ويراد به القوة الغريزية التى تبعث على السلوك كما يراد به السلوك الظاهر "أى الحالة المكتسبة التى يصيربها الإنسان خليقا أن يفعل شيئا دون شئ".
وعلى هذا المعنى الأول جاء الحديث: ( خيرما أعطى الناس خلق حسن ) رواه أحمد والنسائى ، ويشهد للمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما من شئ أثقل فى ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، وان الله ليبغض الفاحش البذىء ) أخرجه الترمذى ، ولم يستخدم القرآن الكريم لفظ "أخلاق" بصيغة الجمع ، وإنما جاء اللفظ مفردا كما فى قوله تعالى: { وإنك لعلى خلق عظيم } القلم:4.
أما السنة الصحيحة فقد ورد فيها بلفظ الجمع وإن ورد بلفظ المفرد أكثر ، فقد جاء لفظ "أخلاق" فى حديث: ( إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا ) رواه مسلم ، ولم تخل حضارة فضلا عن دين من الحديث عن الأخلاق لارتباطها بالإنسان ففى الحضارة المصرية القديمة حديث عن الوصايا ، والفضائل حتى أن بعض مؤرخى الفكر اعتبر المصريين أول من تكلم فى مسائل الأخلاق.
فإذا أضفنا إلى ماسبقت الإشارة إليه ماجاء فى الديانتين السماويتين اللتين سبقتا الإسلام ( اليهودية ، والمسيحية ) من هدى إلهى فى هذا الصدد أمكننا أن نقرر أن الاهتمام بالأخلاق قاسم مشترك بين كل المذاهب والأديان باعتبار أنها خصيصة للإنسان الكائن الأخلاقى ، وأمكننا كذلك أن نفهم فى ضوء هذا الحديث: ( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ) .
والإسلام الذى جاء ليتم البناء الأخلاقى للإنسان تميز اهتمامه بهذا الأمر إلى حد أن فسر الإسلام على أنه الخلق ففى قوله تعالى: { وإنك لعلى خلق عظيم } القلم 4 ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : على دين عظيم أى الإسلام.
ويتضح هذا حين نشير إلى حقائق مهمة منها :
1- الصلة الوثيقة بين الإيمان عقيدة والأخلاق سلوكا قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } التوبة 119 ، وفى الحديث: ( ما آمن بى من بات شبعان وجاره جائع ) متفق عليه.
2- العبادات ذات أثر أخلاقى لابد من تحققه فى حياة الجماعة ، وهذه بعض الأمثلة:
- قال الله تعالى { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } العنكبوت:45.
- وقال الله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم } التوبة 103.
- وقال تعالى { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج } البقرة 197.
3- الأخلاق شرط لصحة المعاملات: قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا ان تكون تجارة عن تراض منكم } النساء 29 وقال تعالى : { ويل للمطففين } المطففين 1 ، وفى الحديث ( من غشّ فليس منا ) رواه مسلم .
4- الحدود فى الإسلام زواجر عن جرائم خلقية ( حد القتل ، السرقة ، الزنا . . ) ولعل المتأمل فى هذه الحقائق يدرك البعد الاجتماعى للأخلاق فى الإسلام باعتباره دينا للحياة ينظم علاقات الأحياء ببعضهم وبالحياة حولهم حيوانات أو جمادات مما يسمى بالبيئة أو الكون المحيط بنا . وقد أدى فهم علماء الإسلام لأهمية الأخلاق باعتبارها دينا إلى بذل جهود علمية شكلت علما يسمى بعلم الأخلاق الإسلامى ، بخصائصه التى تمينره عن جهود غيرهم فى الحضارات الأخرى فى هذا المجال .
ولم يكن هذا الاهتمام خاصا بعلماء دون غيرهم ، بل أسهم الجميع فى إثراء هذا العلم ، فأهل الحديث أبدعوا بعمل اليوم والليلة ، ووصلوا إلى كتب متخصصة فى موضوع واحد مثل "جامع بيان العلم وفضله ؛ لابن عبد البر وغيره كما امتلأت كتب الفقه بالحديث عن الحسبة والشروط الخلقية لكثير من التصرفات كذلك تحدث العلماء المسلمون عن السعادة وعن الفضائل والقيم ونحو هذا ، بل إن أهل اللغة والأدب أسهموا فى نضوج هذا العلم مثل الراغب الأصفهانى فى الذريعة إلى مكارم الشريعة ، والماوردى فى آدب الدنيا والدين . . وغيرهما .
الأمر الذى يجعلنا نقول: إن للمسلمين علم أخلاق أنبثق من معتقدهم وثقافتهم وتشكل كاملا قبل أن يعرف المسلمون البحوث الأخلاقية فى ثقافات الآخرين.
المفضلات