أ.د خالد المبروك الناجح
السرقة وأوجهها الأخرى مثل الاختلاس والسطو جرائم نبذتها جميعاً وحرّمتها كافة الأعراف والأديان والقوانين ، وشرّعت لها عقوبات أدبية ومادية لعَلَّ أشدّها وأقساها ما شرّعه الدين الإسلامي لما تُخلّفه هذه الظاهرة من آثار مُدمِّرة على المجتمعات والأفراد ، إذ قال المولى سبحانه وتعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كَسَبَا نَكالاً من الله والله عزيزٌ حكيم)) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:"إنّما أهلك الذين قبلكم ، إنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها "، والشريف بالمعنى المطلق لا يرتكب هذه الجريمة ، وإنما قُصد بالشريف هنا صاحب المركز الاجتماعي الرفيع ، ويكتفي السارق الضعيف عادةً بالقليل ،أحيانًا لسد رمقه ، مِمَّا حدى بعمر بن الخطّاب رضي الله عنه إلى إيقاف تنفيذ الحد في عام الرمادة ، بينما لا يسرق (الشريف) إلا المبالغ الكبيرة ولا يُشبع نهمه للمزيد من الإختلاسات شيء.
لقد كُنّا من ضمن المُهلَكين من الأُمم اللاحقة بما فعله السُّفهاء مِنّا من سرقات في عهد اللانظام البائد لا تخفى على أحد ، فلو نظر القارئ أينما ولّى وجهه إلى اليمين أو إلى الشمال لوقعت عيناه على أحد السرّاق الذين يعرفهم حق المعرفة ويعرف مصدر ثرواته الطائلة التي اكتسبها بوسائل خسيسة وحقيرة بعدما كان بالكاد مستور الحال في أحسن الأحوال . رأينا بعض هؤلاء بعدما تبيّن لهم أنّ مركب اللانظام لا محالة غارقة (يجودون) بنسبة قليلة مِمّا سرقوه قد تبدو لنا كبيرة ، ويحرصون أشد الحرص وبكل الوسائل على الإعلان عن قيمة تلك المبالغ التي (جادوا) بها لنصرة الثورة ،ونحن إذ سُعدنا بأن سخَّرهم الله ليردُّوا للوطن جزءًا ولو كان يسيرًا مِمَّا سرقوه ليتم صرفه في مَحَلِّه ، فإنّنا لا نقبل بأي حالٍ من الأحوال أن يَمُنّ علينا أحد برد النزر اليسير من أموالنا التي سرقها ليحاول أن يقايض ذلك بالصفح والبراءة ، ولا نرضى بغير رد الحقوق لأصحابها ومحاكمتهم عن تلك السرقات على أن توضع تبرعاتهم تلك في الإعتبار .
للسرقة وجوه أخرى ، فقد رأينا من احترف السرقات الأدبية وقد صار بدون مقدمات من أبرز المدافعين عن الثورة بعدما كان أحد رموز اللانظام السابق والمهللين له ، ورأينا من سرق منهم أطروحات شهادات عُليا ونسبها إلى نفسه ليجعلها جسرًا يوصله للمراكز المهمّة ، ولأنّ من يرتكب خطيئة لا يتورَّع عن فعل غيرها لا نستغرب أن يكون هؤلاء أحرص الناس على ركوب موجة الثورة ليُحافظ من وصل منهم على مركزه ويتمكّن مِن ذلك مَن لم يصل بعد ليراعوا (مكاسبهم) وليجهضوا أملاً صار يراودني بعد نجاح الثورة في إمكانيَّة أن يتم التأكد من مصداقية تلك الشهادات بعدما بُحَّ صوتي للمطالبة بذلك في زمن اللانظام دون جدوى.
يؤسفني أن نرى كل هؤلاء يحاولون سرقة ثورة عُمِّدت بالدم بشكلٍ غير مسبوق .
أ.د خالد المبروك الناجح*
المفضلات