أنا خَلَف يا بنت للنَّاشفات الرِّيق
ما فتيء شِعْر البادية متجذِّراً في أوردتي وشراييني، يعصف برقاً ويقصف رعداً، يطاردني أنَّى توجَّهت، ويلفّني بمفرداته وقوافيه، ويأخذني بعيداً عن أزقَّة المدن القديمة فتبتلعُني «صحرائي» كلَّما تعمّقت في الجنوب في مسراي فجراً في طريقي إلى مؤتة بحثاً عن ذاتي في كتب ذاكرة الوطن المعلَّقة على سيوف الفاتحين الأوائل. أدخل الجنوب عبر بوَّابات الحسينيّة والقطرانة وكراسة شعر البادية.
أعترف بأنَّني أُعاني من حالة «إدمان» غير مسبوقة في الاقتراب من شعر البادية، وهي تعرف بأنَّها من أعراض «النستولوجيا»؛ أي الحنين إلى الماضي، وهي ظاهرة موجودة في داخل الجيلين الأول والثاني من أبناء هذا الوطن الذين تمتدُّ جذورهم إلى البوادي العربيّة، وهم يشبهون شجيرات الشيح والقيصوم والإبل والغزلان البوادي. لقد قدََّمتني قصيدة «صيد الحباري» وقبلها قصيدة «يا طروش» إلى أصدقاء لم أكن لأعرفهم لولا هاتين القصيدتين. وكما قلت في مداخلات سابقة، يبدو أنَّ هناك حنيناً لا يقاوم ووجدانات كامنة في داخل أولئك الذين جاءوا إلى المدن من مضارب الصحراء.
كنت أبحث في كراسة شعر البادية، عن قصيدة لأقدِّمها في مداخلة اليوم، إلاّ أنّ شريطاً من صديق أنقذني في اللحظة المناسبة، فوقعت على قصيدة «نبطيّة» لفارس شاعر يُدعى خَلَف بن دعيجة الشَّراري. وتقول الرِّوايات الشفاهيّة أنَّ خلف من «الشرارات» وهو ابن زعيم القبيلة ووقع في حبِّ ابنة زعيم قبيلة معادية وهي «الرولة». وقد رفض زعيم قبيلة الرولة تزويج ابنته «لم يذكر اسمها» إلى خلف. وزاد من هذا العداء رفض أبيها، فحدثت معركة ضارية بين القبيلتين، تمَّ فيها «أسر» عدد من فرسان «الشَّرارات» الذين اقتيدوا إلى خيمة الزعيم. وكان بين الأسرى فارس منفرد في شجاعته، ممّا أثار شكوكهم بأنّه «خلف»، إلاّ أنّ الغبار وسمرة الوجه قد حجبت ملامحه، ممّا اضطَّرهم إلى الطلب من ابنة الزعيم التعرُّف على هذا الفارس الشَّامخ في كبريائه ومظهره، إلاّ أنّها «أنكرته» خوفاً عليه من القتل، فقالت: هذا أسمر من عبيد الموالي. إلاَّ أنَّ الفارس طلب الرَّبابة من القوم وبدأ ينشد، وبدأ بوصف محبوبته:
سن بدالي لون سكر لا ذاب
وسن بدالي لون حرف الريالي
عندما أطلَّت حبيبته، ظهر «سنَّها» لونه أبيض مثل السُّكَّر، وهو أيضاً مثل لون حافّة الرِّيال «قطعة نقديّة» اللمَّاعة. ويواصل ويقول:
وأبدت عليَّ بريطم به ذواويق
وبمطرق القذلة سواة الهلالي
وبانت شفتاها الرَّائعتان، ومفرق شعرها المدلَّى على كتفيها، وكأنَّه الهلال «القمر في بداية عمره».
وتثور عاطفته فيطلب من حبيبته أن تستغفر الله فيما قالت عنه بأنَّه من عبيد الموالي، فيقول بكبرياء:
واستغفري يا بنت يم العشاشيق
عن قولتك أسمر من عبيد الموالي
أنّا خلف يا بنت للنَّاشفات الرِّيق
حمايهن لو طب بيهن جفال
يخاطبها بقوله: يا بنت استغفري الله عن قولك بأنَّني أسمر من عبيد الموالي، أنا خلف الفازع للفتيات عندما يصيبهنَّ ظلم، فأردّ عنهنَّ الظلم. وفي هذين البيتين الشعريين تتمثّل فروسيّة خلف وشجاعته عندما أعلن بأنّه خلف الذي تعرفه المعارك وهو المغيث للمستنجدات به.
ويواصل خلف الفارس الشَّراري الشجاع قصيدته، عندما يصف والدها بأنّه الرجل الكريم الذي يقيم خيمته للعابرين ورمحه منصوب. أمّا أخوها فهو الذي يحرس الظعون «القافلة» من الخلف ويحميها من الأعداء. وفي هذا يقول:
بيِّك «أبوك» ناصب رمحته للتشاريق
وأخوك حمَّاي الظعون التوالي.
فهو فارس لا ينكر فروسيّة أبيها وأخيها، وإن لم يكن أبوها زعيم قبيلته وفارسها وأخوها شجاع مقاتل، فإنّه لن يتقدّم لخطبتها. فالبدوي المقاتل لا يتقدّم إلاّ من خطبة فتاة معروف أبوها بالشجاعة والكرم وأخوها بالفروسيّة.
والقصيدة، تتميّز بمفرداتها الوصفيّة الناعمة، وخاصة وهو يصف محبوبته. كما تتضمّن عبارات تدلّ على شجاعة الشاعر الفارس فهو يعرف بنفسه غير هيَّاب بالموت.
وتنتهي الحكاية، بالعفو عن خلف وزواجه من بنت زعيم القبيلة، وتتوقّف الحروب بين القبيلتين المتخاصمتين. ولا يتحقّق السّلام إلاّ بفروسيّة الشجعان، ولا يحوز على بنت زعيم القبيلة غير الفارس. وهكذا كان العرب ولكن الزَّمان تغيَّر ولم يبقَ إلاّ الشِّعر والحكايات الجميلة نردِّدها بين الحين والحين.
د. سليمان عربيّات
المفضلات