لم يكتفي بما كبده الزمن عليه من الآلام فمنذ ولادته وهو يتحمل مسؤولية من حوله ،
تيتم أخوته ، وترمل والدته ، كل ذلك جعله كبيرهم وهو فعلا كبيرهم فقسوة الحياة
دفعته إلى عالم الجهد والعمل إلى أن أصبح رجل أعمال يملك من الخير الكثير .إعتاد
(راضي) وبصورة يومية أن يتسابق مع الشمس أيهما يبدأ الشروق أولا ، فما توشك
العصافير على الزقزقة ومناجاة النور حتى يكون هو في وسط مزرعتة الكبيرة
يجول من مكان إلى آخر، وبالطبع يتبعه مساعده (حسن) الذي أصبح مثل ظله يناقشه
في أمور المزرعة وتصل بهم أحيانا الإختلافات إلى درجة الصراخ العالي ،يتقارب
(حسن)في عمره من عمر (راضي) ولكنه يملك قوة جسدية أكبر منه ، تصل درجة
تقاربهما من بعضهما البعض كأنهما قد ولدا من بطن واحدة .
تبدأ المرحلة الصباحية بالتنازع على فترة الإفطارحيث يرفض (راضي) أن يتناوله
مبكرا ويؤجله إلى فترة الإنهاك والتعب ليجلس في ظل شجرته العملاقة التي رواها
من دمه وعمره الطويل ، عشق العزلة واستقر هنا منذ تسع سنوات بعد أن شعر بأن
مهمته في بناء مستقبل أبنائه قد إنتهت وليس هناك من يرغب بتواجده .
في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية -كما يراها (راضي)- يقطن ذلك المنزل الذي
شيده لزوجته وأبنائه الأربعة ، هو بيتا يكاد يكون أشبه بالقصر لكبر حجمه وترتيب
بنائه على الطراز الحديث ، دخولك من بوابته الضخمة يشعرك بأنك نفذت إلى
حديقة خضراء مليئة بالجلسات المتفرقة وصوت خرير ماء من نافورة تسكن أحد
أركانه لا يهدأ ثورانها إلا في المساء عند حلول الظلام وتسلل النوم إلى غرف سكان
هذا المنزل ، فزوجته تغوص مع صديقاتها في عالم الأسواق والزيارات اليومية ،
حيث تتعالى أصواتهن ورنين ضحكاتهن من تبادل أخبار بعضهن البعض ، أما أبنائه
الأربعة فكل واحد منهم يسبح في فلكه الذ ي صنعه من ثروة أبيه .
كل هذه الحياة المترفة لا تدخل السرور إلى قلب (راضي) على قدر شعوره بالسعادة
في مكانه هذا ، إستيقظ مبكرا كعادته -صباح الأثنين- واتجه إلى شجيراته لكي يرويها
حتى صاح به (حسن) -كأنك نسيت ما هو اليوم ؟
_ لم أنسى ، ولكنها قالت لن تأتي هذا الأسبوع .
_ وهل تؤمن بعد هذا العمر كله بقرار أتخذته امرأة ؟ صدقني ما هي إلا سويعات
قليلة وسوف تجدها بين أحضان مزرعتك ، هنا علت ضحكات (حسن) وهو يردد
- يا لك من عجوز لا يكبر قلبه ولا يشيخ ، تبسم (راضي) وتبادل الضحكات معه .
(أم سليمان) تكاد تكون الزائرة التي لا تنقطع عنه ، فالاثنين هو يوم لقاؤهما
الأسبوعي ،منذ أن عاد التواصل بينهما وبدأ التلاقي كما كان عليه في مرحلة الطفولة
إختارها قلبه ولكن لم تختارها والدته التي فضلت أن تزوجه ابنة عمه القريبة منه
في صلة الدم والبعيدة بعالمها آلاف المسافات عن عالمه ، (أم سليمان ) لقب أكتسبته
من اسم والدها ولكنها لم تطعم يوما الأبناء بسبب عقم زوجها الذي توفي من فترة
زمنية ، في الأسبوع الصارم إختلفت معه بسبب رفضه الذهاب إلى الطبيب للكشف عن
الآلام التي بدأت تراوده مؤخرا في صدره ، فدائما كان يجيبها إذا كان الموت يرغب
بزيارتي فلن أقف في طريقه أبدا ، غضبت منه وتوعدته بأنها لن تزوره في هذا
الأسبوع ، ولكن (راضي) بدأ يجهز المكان فلقد إعتادا أن يجلسا في ظل تلك الشجرة
الكبيرة ،و كان يرفض أن يقوم (حسن) بتنظيفه ، يأتي بالبساط وينثر عليه وريقات
الياسمين التي تملأ المكان برائحتها الزكية حتى إنه يقوم بتحضير الطعام لهما ،
جهز المكان فهي تحب ان تراه مرتبا ونظيفا ، يخالسه (حسن) النظر من فترة إلى
أخرى لكي يطمأن عليه ويردد في نفسه - أرجوك أن تأتي يا( أم سليمان) ، فعدم
حضورك إليه سوف يقتله ، جلس (راضي) على الأرض وأسند رأسه إلى جذع
الشجرة وصفن إلى عالم آخر تكون فيه (أم سليمان) متواجدة لا تفارقة دقيقة واحدة
ولكنها دائما ترفض بحجة أن لديك أسرة ونحن قد كبرنا على هذه الأحلام ، عزاؤنا
في لقاؤنا هذا فارضى بما قسم الله لنا .
يركزنظراته على بوابة المزرعة إنتظارا لقدومها ولا يلوح بنظره عنها إلا عند تحرك
ظل الشجرة من مكانه معلنا مرور الوقت ، تحرك آخر للظل وإذا بها تطل من تلك
البوابة وتمشي متجهة إليه كأنها سحابة رحمة أرسلها القدر إلى أرض قاحلة ،
- قد أتيت يا (أم سليمان) .. !
-لو كانت أقدامي هي التي تقودني لما أتيت ، ولكن لي قلبا يسوقني إليك منذ أن
عرفتك أيها العجوز المتهالك . جلست وكعادتها بدأت الحديث أولا لتخبره عن ما
مر بها من أحداث ، ينصت إليها ويسمع حديثها بشغف شديد فعذوبة كلماتها تمنع
جفونه من التحرك كي لا يغيب طيفها عن ناظره ، يسبح في بحرها ويتناسى كل ما
يدور حوله كأن الزمن يتوقف في هذا اليوم .
تبسم (حسن) من بعد وهو متجه إلى حقل الفواكه لكي يجني ما جادت به الأرض
نظر إليهما وهو يهز رأسه مرددا :
- لم ولن أرى مثل هذان العاشقان أبدا ..
المفضلات