الذين شاهدوا جلالة الملك يتحدث مع كبار ضباط القوات المسلحة ربما أدركوا أكثر من أولئك الذين قرأوا كلام جلالته في اليوم التالي، حجم الغضب – وليس مجرد العتب هذه المرة – الذي كان وراء الكلام.
فما الذي اغضبه؟
الحكومة ومجلس الأمة والصحافة والصالونات دعاها جلالته لتحمل مسؤولياتها. المحافظات والأرياف والبوادي والمخيمات أعفاها جلالته من المسؤولية.
المشكلة اذاً ، في العاصمة . فما الذي يجري في عمان؟
في عمان هذه الأيام أزمة سير خانقة ليلا ونهارا تنعكس على وجوه سائقي السيارات كما على المشاة الذين ينتظرون سيارة أجرة فارغة تقلهم الى منازلنهم أو أعمالهم .
ويزيد من عبوس الناس ارتفاع الاسعار المنفلتة بلا رقيب ، ودوريات الشرطة التي تملأ الطرقات داخل المدن وخارجها ، والحديث عن حلول غربي النهر ، وقوانين تطبخ في البرلمان بعضها على نار هادئة وأخرى تتوهج وثالثة في قدر ساخن. وفي عقل كل مواطن الف سؤال وسؤال : ما الذي يجري؟ وماذا يخبئ المستقبل؟
اولى الجهات المعنية بالإجابة هي الحكومة. ولكن وزير الإعلام المضاف إلى الحكومة بعد تعديل إعوجاجها صامت منذ دخلها . أما رئيس الوزراء فلم يتحدث في السياسة الداخلية أو الخارجية ولم يظهر في مقابلة تلفزيونية مثلا منذ عامين تقريبا. وأما وزير الخارجية فقد بات أكثر اهتماما بربطة عنقه وابتسامته والتنفس العميق بين الكلمات عندما يصرح ليشعرك أنه يفكر قبل كل كلمة يقولها .
البرلمان لاعب أساس في المعادلة، لكنه مجلس يثير الكثير من الأسئلة من دون سعي جدي لسماع الإجابات، ويخوض معارك جماعية أو فردية تنعكس سلبا على صورته أمام الرأي العام .
أما الصحافة فإنها تدفع ضريبة سنتين عانت خلالهما من العبث ومحاولات الخنق والتدخل في الكثير من التفاصيل، فباتت ضحية ومتهمة في الوقت ذاته: ضحية لإنها عانت الكثير من العبث ، ومتهمة لأنه تسلل إليها نفر من غير المهنيين من جهة ، ومارست بعضها اغتيال الشخصية والاتهامية وتشويه صورة الوطن كنتيجة لتشويه صورة رموزه ومؤسساته من جهة اخرى.
وبالإضافة إلى كل ذلك فإن فتح باب المشاركة لكافة المواطنين للتعليق عبر المواقع الإلكترونية – وهذا صحيح من حيث المبدأ- أفسح المجال أمام فئة قليلة للتعليق بأسماء مستعارة ودس السم في الدسم لدرجة أصبح من غير الممكن التمييز بين اتجاهات الرأي العام وحملات العابثين وأصحاب الأجندة الخاصة، وبالتالي فقد أصبحنا وكاننا أمام بدايات حرب أهلية ولو على الورق . ودخلت بعض الصحف طرفا في حملات الشتم والتحقير في حين لجأت الصحف الكبرى إلى الصمت.
الفئة الأخيرة التي لامها جلالة الملك هي صالونات عمان وهي ظاهرة ليست جديدة ولكنها نشطت في الأوان الاخير ، وفي ظني أن حجم نشاطها وقوة تأثيرها يعتمد على نظرية الفراغ ، بمعنى أن غياب الحكومة وسلطات الدولة الأخرى عن مواجهة الشائعات وتطمين الناس واتخاذ الإجراءات الكافية لتمكين الناس من المشاركة يجعل من الصالونات وأصحاب الأجندة الخاصة قوة تتنامى كلما عجز الآخرون.
باختصار فإن المشهد العام يوحي للمراقب بأن لا أحد من المعنين بالشأن العام يجلس في مكانه الصحيح ، وان تحذيرات جلالة الملك يجب أن تقرأ بحرص شديد ، وأن تكون ردة الفعل الأولي أن يعود كل لاعب إلى موقعه، وإلا فإن الحكم يحمل صفارة وبطاقة صفراء وقد يضطر لإشهار البطاقة الحمراء بكثرة هذه المرة.
أخيرا، فإن المراجعة التي تحدث عنها جلالة الملك باتت على الأبواب، وبما انها لن تطال التوجيهات الأساسية للدولة فإنها ستطال الكثير من الأشخاص على ما يبدو أو على ما يؤمل على الأقل.
المراجعة تعني الاستفادة من دروس الماضي، ولعل أقساها ما عانته البلاد في العامين الأخيرين من سياسات الاستفراد والإستقواء والإقصاء الأمر الذي أدى إلى المساس بوحدة الصف والكثير من التخريب ندفع ثمنه اليوم وسندفع في المستقبل ولكننا قادرون بقيادتنا الراشدة ووحدة صفنا أن نتجاوز السلبيات ونمضي نحو غد أفضل.
المفضلات