ذاكرة الدحنون!
مفلح العدوان
لمّا كنت ألوذ بضرع الثرى مرتشفاً الماء، كان ينحني معي مثل ظلّي، وبدفء يهمس لي: (أخي..). فيقشعّر، من لهفة الدعاء بَدَني، ويتحرك شوقاً لساني: (حتماً.. أنت تموز !).
يبتعد باتراً اللقاء، كما دائماً، مبقياً وراءه كَفَناً من الدحنون أواري بتأمّله سَوْءَة حزني، فأناجيه متقمصاً نبض روحي فيه: (ها أنا أثوب إليك..).
وإخاله قلباً يتكئ على صدري، سامعاً نبضي إذ يناديه: (يا البعيد.. بعض منك يكفيني، فكيف الكثير؟!).
أحدّق فيه..
أراه، لا على شاكلة زهر الربيع ، بهيجاً كالنسيم، بل أتملاّه نسيجاً قان لنطع خَلَّفَه دم شقيقي بعد أن أعدموه!
أشهق حاقداً، فأنفث زفيراً يستنطق الذاكرة: (ياه.. لو شاركته بعض جراحه!).
ألوم ذهولي.. أقسو على صمودي حيّاً بعد أن رأيته يتوارى هارباً من خنزير البرّية حين نهشه أوّل مرّة، فَنَزَّت منه قطرة دم.. القطرة تشكّلت بضع بتلات ضمّت بعضها لتصير (دحنونا) تآخى مع دم أخي، قبل أن ينسلّ بعيداً، مضمّخاً بجراحه!
أتساءل: (كيف أشاعوا الخبر، أنّه مات؟!).
وأعجب من تلك القصص التي حاكوها حوله، رغم يقيني بأنه كان جريحاً حين مضى!
كلّما رأيت الدحنون تذكّرت تموز وهو يقول: (شقائق النعمان.. مؤاخاة الدماء!).
وما كنت أعي ما يريد.. وكنت أرقبه، مهيباً كالشهادة وهو يقترب مني، ويمسك أبهامي، وأنا طوع مشيئته، خاشعاً، صامتاً، يجرح إبهامي وكذلك إبهامه، ثم يعانق الإصبعين، جرحاً بجرح، حتى يتصلّب الدم حاقناً النزيف!
أتملّى بهاء وجهه وأنا مشدوهاً بنوره، فأراه مبتسماً وهو يحدّق في تشكّل الحُمرة إكليلاً على إبهامه.
أصمت.. ويأتي حديثه واثقاً كالنبوءة: (مثل ورد، نقاء هذا الجرح!). يزداد سؤال اندهاشي: (ورد، وجرح.. ترى كيف يلتقيان؟!).
يكمل بوحه جواباً: (ها نحن زرعنا الجرح وردتان، واتحدنا أقنوم دم!).
يبتعد، كما دائماً.. فأنكفيء، على جرحي، العام كلّه منتظراً تلك الأشهر الأربعة التي يتحرّر بها، الغائب، من أسباب رحيله، عائداً كالنذر، مباركاً كالأولياء الصالحين!
محتجاً أتضرّع له: (إلى متى سيبقى الغياب؟!). يصمت، فأزيد القول: (هل ستظلّ تجترّ الحياة، أربعة أشهر كل حَوْلٍ، ثم تختفي؟!).
يلوذ الهارب بالأفق.. يُسَرّح نظره بعيداً، بينما يمتقع وجهه احمراراً من قهره.. أُنصت، فأسمع نبض قلبه، قيثارة تشي بصفاء سريرته، وبنقاء عمره. أسأله بِتّ، يا شقيق الدم، تتشابه عليّ من كثرة ما تغيّر اسمك، متنكراً بغير وجه، خوفاً من خنزير البرّية.. هل أنت ادونيس الآن؟!). يبتسم، ويوميء برأسه إيجاباً.. يغشى الإحمرار وجه الأرض خجلاً منه، قبل أن يقول: (ما زال الخنزير البرّي يتبعني.. فاحذر!!). أتشبّث به: (خذني بأطراف كَفَنِك، فهذا الخنزير يرعبني!!). ساهماً يبتعد بنظره، وهو يهمس: (هناك في الأسفل تنتظرني أفروديت!!). أغبط نقاء سريرته، فأهذي لروحي: (ميت ويحبّ؟! كيف؟! نحن الأحياء لا نقوى على هذا..). أرجوه، وأنا ملتصق به: (إمزج بدمي حرّ دمك، وخذني معك..). يجيب هامساً: (هذا الخنزير، كأنه مبعوث لي، باق، ولا يموت على مرّ الأزمنة!!). أسمع حركة خلفي، فيبتعد أخي، وينبض بخوف وسرعة قلبي، فأدرك أنه ابتعد خشية جاسوس كان يترقب حلوله معي.. أنظر للمكان حولي، صار كلّه دحنونا أحمرا يشي بمروره من هذا الدرب!! ياه.. هو لا يأتي إلاّ ويترك بعضاً من أثره!
أتلمّس ندبة الجرح على إبهامي، فيعاودني صدع كلماته: (مثل ورد، نقاء هذا الجرح..).
أستنطق الدحنون فجراً، والندى دمع يسحّ على خدود البتلات موحياً بالدهشة: (أيّ زيّ قرباني هذا؟!).
أراه مروجاً من الأضاحي المهدورة على شرشف التراب، فأسرّح رأس الربيع زهرة زهرة بحثاً عنه! يا اللّه.. كلها بلون دمه، وهو يتقمصها جرحاً ندياً إذ تحتويه!!.
أنكفيء هارباً.. تتبعني خشخشة الخنزير البّري أنّى ارتحلت، فأيمّم شطر البحر.. صار البر لا يحتملنا.
أعقد طرف عقال البحر لاجئاً به، وأرمي كلّ ذاتي فيه حالماً بأن أصير صدفاً، أو موجاً، أو رحيلاً فيه.. أتوارى عميقاً، فأرى خياله مقبل كالبشارة.. أركض نحوه.. أناديه: (أخي). فيأتي، كأنما هو على موعد معي، وأداري بحضوره خوفي مستفهماً منه: ( ها.. ما اسمك اليوم؟!).
يجيب كما دائماً: (ما زال الخنزير يتبعني..). أهدر آهة، فيجيبني ثانية: (أوزيريس..). أتملاّه، إلآهاً يحدّق بالعالم، محنّطاً إياه، تحت إمرته والماء طوع يمينه؛ يضربه مرّة فتتشرّبه السهول، ويثني (خبطته) عليه، مرّة أخرى، فتمتد الأرض مروجاً موشّاة باللون الأحمر، دحنونا، لا يتخطّاه الخنزير البرّي ولا يقربه، وحتى إن أتى، يتصدّى له أوزيرس محنّطا إيّاه صخرة، أو شجرة دفلى!
يطول صمتي، فيهزّني أخي موقظاً إيّاي: (أين ابتعدت؟!).
أفاجئه بالسؤال: (أيّ خلود هذا الذي يعطى، ببذخ، للشّر دائماً؟!).
يتلمّس جيوبه، فيخرج يده بيضاء ألاّ من ندبة جرحه. أُشْهِر يدي، فتعلو، بيضاء إلاّ من ندبة جرحي.
ننظر للدنيا.. قفراء إلآّ من حُمرة الدحنون!!
المفضلات