إبراهيم كشت
بُنيتي ، أيتها الغالية ...
أُحاولُ أن أكتب إليكِ في موضوع بعض القيم الجليلة ، والمعاني السامية ، التي أحسُّ أنها لم تنلْ من البحث والدراسة ما تستحق ، أو لم تسلّط عليها كميات كافية من الحزم الضوئية الكاشفة التي تجلو معانيها ، وتظهر أعماقها وآفاقها وأبعادها ، هذا بالرغم مما لتلك القيم من أهمية وأثر في الذات والسلوكات والعلاقات . ولذلك ، فإنكِ قد لا تجدين تفصيلاً لمثل هذه القيم في الكتب المدرسية ، أو في الصحف والمجلات والكتب ، وبالتأكيد فإنكِ لن تجديها مبحوثةً في مواقع التواصل الاجتماعي ، والرسائل الالكترونية المتبادلة ، التي يتسم كثير منها بالضحالة والركاكة والسطحيّة . ومن تلك القيم التي وَددتُ أن أحدّثك عنها قيمة «الأصالة» ، التي أتمنى أن تكون واحدة من قيمكِ في الحياة ، وتكون تجلياتها ومعانيها جزءاً من خصالكِ ، تمتزج بسجاياك وطبائع ذاتك ، وتتجسد واقعاً حياً في سلوككِ ...
الأصالة .. صفة ما هو حقيقي :
يا ابْنتي ، إن لكلمة (الأصالة) معانٍ متعددة ، سواء في مجال اللغة ، أو على مستوى الاستخدام ، أو على صعيد البعد الفلسفي والفكري ، بل وفي مجالات الأدب وعلم النفس ، إلا أن المعنى الذي أَقصده هنا ، هو تلك الأصالة التي تشير إلى صفة ما هو حقيقي ، خالٍ من الزيف ، لا يشوبه عارض من الكذب ، ولا تعتريه محاولات الإيحاء بغير الواقع . إنها صفة الشيء على حقيقته وطبيعته ، بلا ادعاء ، ومن غير تقليد . فالمعدن المطليُّ بلون الذهب قد يأتلق ويلمع ، وقد يزداد بريقاً إذا سقط الضوء عليه ، وقد يوحي للناظر – للوهلة الأولى – بأنه ذهب خالص ، لكنه في حقيقته مفتقد للأصالة ، يحاول من خلال قشرته الخارجية السطحية أن يخفي رداءته ، وقابليته للصدأ والتآكل . أنه مزيّف ، يقلِّد الذهب في لونه وبريقه، لكنه لا يملك جوهر الذهب وخصائصه .
الأصالة .. توافق بين الحقيقة والظاهر :
إن الأشخاص الذين يتمسكون بقيمة (الأصالة) ، وفقاً لمعناها الذي أشرتُ إليه ، يملكون – أيتها الغالية - درجة متقدمة من الصِدقيّة ، أي التوافق التام بين حقيقتهم وظاهرهم، فهم يترفّعون عن محاولة الإيحاء بغير واقعهم ، ويتنزهون عن الادعاء بما ليس لديهم من الإمكانات والقدرات والمهارات ، ويربأون بأنفسهم عن تصوير واقعهم الاجتماعي أو مستواهم المادي على غير ما هو عليه . وهم كذلك لا يزعمون المعرفة بما لم يحيطوا به علماً ، لا يتخدلقون ، ولا يتشدقون بما لا يفقهون .
والأشخاص الذين يمكن أن نصفهم بالأصالة يا ابنتي ، يحوزون فعلاً كل القيمة التي يوحون بها ، ويُظهرون أنفسهم كما هم على حقيقتهم ، وتتناغم أقوالهم مع أفعالهم وأفكارهم . إنهم ينطلقون في سلوكهم من قناعاتهم وقيمهم ، لا يقلدون أحداً ، ولا يحاكون في تصرفاتهم أنماط السلوك السائدة التي لا تتناسب مع طبائعهم وأفكارهم ومبادئهم ، إنهم أناس حقيقيون، يعافون الكذب ، ويمقتون الزيف ، ويأبون سلوك سبل الاختلاق والمبالغة والتهويل بهدف إقناع الآخرين بغير حقيقتهم ، أو الإيحاء للناس بغير ما هم فعلاً عليه .
إذا غابت الأصالة .. ظهر الزيف والادعاء
أما الأشخاص الذين يفتقدون إلى صفة الأصالة ، فبالإضافة إلى ما يحيط بواقعهم وسلوكهم من ادعاء وافتراء وتزييف ، فإنه يمكننا – يا بُنيّة - تمييز الكثير من سمات سلوكهم، فهم مثلاً يعشقون تحويل أحداث الحياة العادية اليومية التي تمر بهم إلى نوع من (الدراما) ، أي أنهم يجعلون من الوقائع اليومية العادية المتكررة ، حدثاً مكثّفاً محاطاً بالإيحاءات والمؤثرات ، لكي يمارسوا من خلال هذه (الدراما) التهويل والمبالغة واستقطاب الأنظار ، على نحو يمكّنهم من ترجمة رغبتهم في تزييف حقيقتهم والايحاء بغير ما هم عليه .
ومن شأن هؤلاء الذين يفتقدون الأصالة ، أن يكونوا ممن يتفانى في إرضاء الناس، والسعي في نيل إعجابهم ، ولو بذلوا في سبيل ذلك وضحّوا وتحمّلوا . أما مع الأقربين كالأهل والأسرة مثلاً ، أو مع من لا يُعلِّقون على رأيهم أهمية ، فلا تجدين فيهم خيراً كثيراً ، لأنهم بين الأقربين يتصرفون وفقاً لحقيقتهم وسجيتهم ، أما مع الغرباء ، وبخاصة بعض الغرباء ، فهم يحتاجون إلى كثير من العطاء المتكلف ، والأخلاق المصطنعة ، لكي يدعموا زيف ادعاءاتهم وعدم صدقيتهم .
حين تتغلّب قيمة القشور على قيمة الجوهر :
ويتصف فاقدوا الأصالة كذلك - وفقاً لمعنى الأصالة الذي بينته – بشدة انتباههم وتركيزهم على القشور ، مع إغفالهم للماهية والجوهر ، فلو أن أَحدهم – يا ابنتي - أراد أن ينشىء مشروعاً مثلاً ، فستجدين أن اهتمامه قد اتّجه نحو اسم المشروع الذي سيختاره ليكون موحياً بالعظمة مفعماً بالمبالغة ، وإلى ألوان وأشكال النشرات التي سوف يصدرها كترويج للمشروع، ثم يغفل كل ما يحتاجه ذلك المشروع من كفاءة حقيقية ومهارة فعلية لكي يكون منتجاً فعالاً مفيداً ، ولكم صادفتُ في عملي يا ابنتي شباباً يقدّمون لك بطاقات التعريف الشخصية المزدانة ، المليئة بتعداد مجالات نشاطهم ، ثم يُطعِّمون حديثهم بما أتيح لهم من كلمات انجليزية ، ويوهمونك بما لهم من صلات وعلاقات عمل وإنجازات ، ثم ما أن تختبرهم بأبسط الأشياء التي تقع في صلب مهنتهم ، حتى تكتشف أنهم لا يكادون يفقهون في مجالها حديثاً ، ولا يعرفون شيئاً عن أبسط قواعدها ، ولا يملكون أيّاً من المهارات التي تتطلبها .
الأصالة .. صدقيّة واحترام للذات :
يا أبنتي ، أشياء كثيرة تجعل تمسكنا بقيمة الأصالة مهمّة وعظيمة ، بل منطقية ومقنعة ورائعة كذلك ، أولها أن الأصالة ترتبط بخلق جليل هو سيد الأخلاق ، وأعني بذلك الصدق ، فهو منبع كل خلق قويم ، وأساس كل سلوك عظيم . وثانيها أن أصالة المرء هي من قبيل احترامه لذاته ، ألا ترين معي أننا نفتقد لاحترام الذات حين نعتقد أننا بحاجة لأن نزركش حقيقتنا ونجمّلها لكي يقبل بها الناس ؟ وهل يحتاج ذو القيمة الواثق من قدره وقدراته إلى الادعاء والتزييف ؟ أعني هل يحتاج الذهب مثلاً لأن نطليه بلون لامعٍ لكي يعيره الناس وزناً وأهمية؟ أما ثالث هذه الأشياء فهو أن الزيف لا يدوم ، والادعاء لا بد أن ينكشف ، والطلاء الخارجي السطحي لا بد أن يزول ، ولا تبقى بعد ذلك إلا الحقيقة ، التي يعبِّرُ التمسك بها عن الأصالة . ودُمتِ لأبيك الذي يحبُك ، ويتمنى لك الخير كله ...
المفضلات