القسم الثالث الوعود القرآنية في السور المدنية
الفصل الأول الوعد القرآني في سورة البقرة
الأمة الوسط الشاهدة على باقي الأمم
ذكرت آيات سورة البقرة وعوداً قرآنية، وتحققت تلك الوعود؛ من تلك الآيات:
أولاً: قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة: 143].
أخبر الله المسلمين في هذه الآية أنه جعلهم الأمة الوسط، والحكمة من ذلك أن يكونوا شهداء على الناس والرسول صلى الله عليه وسلم شهيداً عليهم.
وتظهر (وسطية) الأمة في كل شيء. وسطية المكان والموقع الجغرافي، فهي في وسط الكرة الأرضية، ووسطية الزمان، فهي بعد اليهود والنصارى، والأهم من هذا وسطية المنهج والرسالة، فالإسلام هو الدين الوسط، والمراد بوسطية الإسلام (التوازن) بين مناهجه، و(الاعتدال) في تشريعاته، و(التكامل) بين توجيهاته، فلا إفراط فيه ولا تفريط، ولا مبالغة ولا تفلّت، ولا غلو ولا تهاون.
ووسطية الأمة في منهاجها ورسالتها جعل لها مهمة حضارية كبيرة، ومسؤولية عالمية خطيرة.
لقد جعل الله الأمة الوسط شاهدة على باقي الأمم، وهي المرجع الأساسي للأمم، والحكَم لما ينشب بينها من خلاف، والأصل في هذه الأمة الوسط أن تؤدي شهادتها، وتقوم برقابتها، وتحقق ريادتها وأستاذيتها.
وقد تحقق هذا الوعد القرآني في عالم الواقع، عندما عاشت الأمة بإسلامها، وتحركت بقرآنها، واستقامت على طريقها، فقدمت للعالم النور والهدى، والمدنية والحضارة، والمنهج والريادة.
وكانت الحواضر الإسلامية مراكز إشعاع وهدى، في بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وغيرها، وكان الخليفة القوي مرهوب الجانب، مسموع الكلمة، وكان قادة العالم يتقربون إلى النظام الإسلامي القوي.
ولم تتحول الأمة في هذا الزمان إلى ذيل القافلة، إلا بعدما ابتعدت عن إسلامها، وقلدت الأمم الأخرى في انحرافاتها وسيئاتها.
وما تعيشه الأمة الوسط الآن من ذل وضعف وتبعية، لا يعني تخلف الوعد القرآني لها، بالوسطية والأستاذية والشهادة والريادة، لأن السبب في ما تعانيه هو قصورها وانحرافها، والوعد القرآني ما زال قائماً وجاهزاً، ولكنه لا يعمل في حياة المسلمين، ولا يتحقق فيهم، إلا إذا أوْفوا هم بالعهد، وحققوا الشرط، وأدوا الواجب!.
المؤمنون فوق الكفار إلى يوم القيامة:
ثانياً: قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[البقرة: 212].
تُعرفنا الآية على حقيقة ما عليه الكافرون، فهم لا يؤمنون بالآخرة، ولذلك زينت لهم الحياة الدنيا، وهم يؤمنون بها، ويعملون لها، وهي هدفهم وسعيهم، ومحط اهتمامهم، تجدهم حريصين عليها، مقبلين على ملذاتها ومتعها وشهواتها.
ونظرتهم للمؤمنين تقوم على السخرية والتهكم والاستهزاء، لا يعجبهم المؤمنون في ترفعهم عن متع وشهوات الدنيا، وفي نظرتهم للآخرة، وفي سعيهم لها، وفي خوفهم من الله، الذي يدفعهم إلى ترك ما حرم الله.
وشتان بين المؤمنين والكافرين، فالفريقان لا يستويان، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وذكرت الآية حقيقة قرآنية قاطعة، وقدمت وعداً قرآنياً منجزاً: (وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
المؤمنون المتقون فوق الكافرين، ويبقون فوقهم إلى يوم القيامة. هذا ما قدره الله وأراده، ولا رادّ لأمره سبحانه.
والمراد بالفوقية هنا فوقية معنوية نفسية، وليست فوقية مكانية مادية. إنها فوقية تملأ شعور المؤمنين، هم المتميزون على الكافرين في كل شيء، متميزون بدينهم ومنهاجهم، ومتميزون بمهمتهم ووظيفتهم ودورهم، متميزون بأفكارهم وتصوراتهم، وبسلوكهم وتصرفاتهم، وبآمالهم وتطلعاتهم واهتماماتهم. متميزون في دنياهم وآخرتهم.. ولهذا يوقن المؤمنون أنهم أفضل من الكافرين، وأنهم الأعلون المتفوقون. كما قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].
وشعور المؤمنين بأنهم الأعلى، وأنهم فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة لا يعني تكبرهم على غيرهم، لأن التكبر محرم في دين الله.
إنما يعني اعتزازهم بالإسلام، وافتخارهم بالانتساب إليه، وشكرهم لله على ما ميزهم به، وحرصهم على الالتزام به، وقيامهم بواجب الدعوة إليه، وتقديم نوره إلى الذين يتخبطون في ظلمات الكفر والجاهلية.
كما يعني هذا استغناؤهم بالإسلام، واكتفاؤهم به، ويقينهم بعدم حاجتهم لغيره، ولذلك لا يأخذون من الكافرين شيئاً من أفكارهم ومذاهبهم، وقوانينهم وتشريعاتهم، وقيمهم وعاداتهم، وسلوكياتهم وتصرفاتهم، لأن هذا كله نتاج كفرهم، وانغماسهم في الحياة الدنيا وإنكار الآخرة.
لا بد أن يشعر المؤمنون بأنهم فوق الذين كفروا، فلا يجبنوا ولا يضعفوا أمامهم، ولا يذلّوا لهم.
وقد حقق الله للمسلمين وعده، فجعلهم فوق الذين كفروا، حيث نصرهم عليهم، ومكن لهم في الأرض.
شرط كون المؤمنين فوق الكفار:
وكون المسلمين فوق الذين كفروا مشروط بالتزامهم الصادق الجاد بالإسلام، وتطبيقه والحركة به، فإن أخلوا بهذا الشرط فقدوا هذه الصفة، ونزلوا عن هذه المنزلة، ولا يرتقون إليها إلا إذا عادوا إلى إسلامهم.
والمسلمون في هذا الزمان ليسوا فوق الذين كفروا، وإنما صاروا في أوضاعهم العامة دون الذين كفروا، وهم الذين جنوا بذلك على أنفسهم، وهم السبب في ما أصابهم، لأنه انفكت صلة كثيرين منهم بالإسلام، وضعفت صلة آخرين به، وبذلك لم يلتزموا بشرط الفوقية المشروط.
ونحن على يقين أن المسلمين سيعودون عودة جادة للإسلام، وبذلك يعودون إلى المنزلة العالية التي وضعهم الله فيها، ورفعهم إليها، وجعلهم فوق الذين كفروا.
نحن جازمون أن هذا الوعد القرآني سيتحقق لهم في المستقبل، عندما يغيرون ما بأنفسهم من سوء، كما تحقق هذا الوعد لآبائهم الصالحين!.
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــع
وعود القرآن بالتمكين للإسلام
الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي
المفضلات