ساعة سفر ؛
لم يكن في صبحنا ما يميزه ؛ فإشراقة شمس الشتـــاء الشاحـــبة ذاتها ، و مهامنـــا الصباحية زادت عليهــا مهمة حزم حقائبنـــا ، وضبنا حاجياتنا أنا و أمـــي ، و ودعنا أبي و أخواتي و إنطلق بنا الحافلة برحلة تبدأ من عمــان إلى حلب ..
بسم الله ليتفقد كل صاحب صاحبه ؛ كانت كلمة سائق باصنـــا السعيد ، ليشق طريقـــه في متاهات الشوارع ، حيناً يمر في الشوارع العريضــة ، و حيناً آخر تضيق به الطرقات ليطلق زامـــوره القوي غاضبـــاً من الأزمـــات .. ليفر منهـــا و يدخلهـــا ثانية ، و يمضي ..
بنظرة سريعــة للمسافرين قرأت تعابيـــر مختلفة على وجوههم دونتهـــا عنوان لرحلتـي ، منهـــم من كان متجهم و إكتفى بالنظر للنافذة ، و منهم من لم يمل سرد قصص من حيـــاته ، و منهـــم من وضع السماعات في أذنيـــه ليســافر وحده مع الأنغــام ، كلنا كنـــــا غربـــاء ، و كأن لغة كل منا مختلفة عن الآخر ، لم يجمعنـــا سوى عامل الهم .. هذا ما بدى لي واضحـــاً في الوجوه .. حتى و إن إختبأ وراء إبتســـامة غريبــــة كغربتنـــا و غربـــة ساعات رحلتنـــا ..
لم أجد في نفسي قدرة على إحتمـــال نظراتهـــم المريضــة ، فوجدت النافذة على يميني بحر واســـع كفيل بأن ينسيني هموم لا حاجــة لي لمعايشتهـــا ، فرسمت علامـــة إستفهام و رميتهــا لتدوسهـــا السيارات المسرعـــة ، ..
رأيت بنايـــات متراصـــة و شبهتهـــا بمكعبات بذل طفل مجهوده و خيــاله في تركيبهـــا لتبدوا بهذه العشوائية البريئـــة .. و مررنـــا بسلاســـل من الأشجـــار ، ومـــا أجمل من منظرالشمس و هي تتبرى من أسهمهـــا لتطلقهـــا في كل الإتجاهات .. أعالي البنايات ، الصبيـــة على الطرقات ..ورود الشرفــــات .. حتى الأرصفة الملونة ، .. وبعد ساعات من مشاهد تتالت عليّ و لم تحفظهـــا ذاكرتي لتنوع الصور فيهـــا .. حيتنـــا الشمس تحيــــة وداع ليست بروتينـــية ، فقد كانت تغيب خلف جذوع الأشجـــار ، و تشرق من جديد من بين فروعهـــا الخضراء بلمســـة من ذهب .. تعبت الشمس و غابت خلف التلال البعيدة ، نـــامت و نام معهــــا ركاب باصنـــا ، وخيم الهدوء وجدت كل من في الباص وحدهم تعب الجلـــوس الطويل ، و لم تغلبني همومـــي و النعاس وقتهــا ، فإسترسلت النظر خلال شاشتي المعتمـــة التي لم أجد فيهـا ســوى إنعكاسات أضواء السيارات في الشوارع المتفرعــة الممتدة إلى ما لا نهايــــة أمامنـــا ، حتى وصلنــا نقطة هي محطة سينزل بها بعض الركاب منـــا لينسوا الطريق و ينســونـــا و الباص بعد أن يغادرونـــا دون تحيــة أو سلام ، و نكمل رحلتنا بدونهــم و لن تفيد ذكراهـــم و ليس هنـــاك من يذكرهــم منا حتى ، و نمضــي تسرقنـــا الطرقات من ماضينــــا ، و نأمــل أن نجد بوصولنــا أيـــام أجمل و أحبـــة أكثر ..! و الهم و التعب و الأمـــال تجمعنـــا ، و درجـــات الباص الثلاثـــة ، تستقبل و تودع دون دمــوع ، لا تعرف سوى خطواتنـــا التائهـــة و أمانينـــا الضائعـــة ..
إشتدت ظلمة الليل ، وبقيت أنفاسنـــا الدافئة تنبض كما قلوبنـــا ببطئ ، و الأغنيات من مسجلـــة الباص قديمـــة الألحان .. عاشت فينـــا لساعات ، فشتت التفكير ، و أضاءت البهجـــة الحلوة المرة ..!
منـــا من بكى ذكرى مع حبيب مضى ، منـــا من حلم بفنجان قهوة حضرته أمـــه ، و منهم من تدفأت أيـــامه بشال من صنع يدي جدتـــه ، و منهم من دفن الأشــوق قبل إنضمامــه إلينـــا و أيضـــاً بكى ، منهم من تمنى أن يصــل كي يلتقي الأحبـــاب ؛ بورد ، بهديــة ، بعيديـــة ، بإبتســامة .. كل على قدر حـــاله ..
حينهـــا سألت نفسي ؛ كيف وصفت حافلتنا بالسعيده ..؟ و خفت من الإجابـــة فتحاشيت النظر في عيونهـــم .. و مضيت أقرأ الافتـــات ، و أحصي إشارات المرور ..! كي لا أفكـــر بإجـــابة لسؤالي فأبكـــي على واقع الحال .. فأنـــام ، و تفوتني تفاصيل رحلتنـــا السعيدة ..!
تقطع المسافات بنا و يدور شريط المسجلة على عجل ليخبرنا بإقتراب موعد الوصول ، و نحن على فرحـــة لا نعرفهـــا نريد لو نحصل عليها لتصاحبنا .. و تنسينـــا أيام هربنـــا منهـــا و ساعاتها معنا في رحلتنـــا و ودعتهـــا لأيـــام في مكـــان و زمـــان مجهولان .. قد أو لا نصل إليهمـــا ، و نكمل رحلتنــــا ..
تمطــر خارجـــاً وتغسل الطرقات و تهدأ حركة حافلتنا المتعبة بنـــا ، و تختلـــط ألحان أغنياتنــا بصوت إرتطام حبات المطر بسقف حافلتنا و نوافذه الزجـــاجيـــة الأنقى من شافيـــة عيون قلوبنـــا ..! لكن المطر لم يطفأ ساعات إنتظـــار وصولنـــا التي أشتعلت فينـــا لتحرق الساعات تمنيـــات و أسى ، فيتخللهــا تنهدات خائفـــة و أخرى ليس لهـــا تسميــات ..!
حاولت أن ألتقط من سواد ليلتي قمر ، لكني لم أجده .. و خيل إلي أن البلاد تعيش ليلهـــا دون حكايات قمر ، تلفت حولي في محاولات بائســـة ، و تفتت أمــالي أضواء تناثرت على حدود شوارع المدينــة التي تتنفس ضوضـــاء و جنون و دخـــان ..! و يبقى الصراع في كل ما حولنـــا ، سيارات تتزاحـــم ، و أنـــاس تتشاجر ، و أمـــواج تتلاقفهـــا الأرصفة في شوق منهـــا للمطــر ، و تعيـــش المدينــــة على بقايـــا فتات الخبز المحمـــص في المنـــازل كل مســـاء ..
تستقبلنـــا حلب الشهبـــاء بأسواقهـــا القديمــة .. بقلعتها و أسوارهـــا العاليـــة ، فتأسرنـــا بنور تسلل من بيوتهــا مرحبـــاً ، لتعود الحيـــاة في حافلتنا و نتسلق النوافذ لنصدق بوصولنـــا و نستقي من جمـــال حلب ليلاً ، .. فيتركنـــا باصنــا و أمتعتنــا على الأرصفـــة الباردة ، و نضيع تأخذنـــا المفترقـــات و ننســـى باصنـــا لينسانى على عتبات زمـــان و مكـــان جديدين بنـــا ، و يعود ليستقبل وجوه جديدة ، و أحلامــاً قديمـــة و محطة حيـــاة كئيبـــة .. و يمضي ، و نحن وسط زحمــة المدينـــة .. مشردون مشردون حتى نلقى أحبـــة في القلب لهـــم شـــوق غنى لهم سائـــق الحافلة و المسجلـــة و نحن ؛ أغنيـــات أمسية رحلتنــا السعيدة ..
ريم الكيالي
المفضلات