ملحق الثقافة
الخريف
تملّكته الحيرة واستحوذ عليه الذهول.
أية وقاحة، وأية جرأة!.
حاول أن يتخلص منها بالنظر من نافذة الحافلة، إلا أن ضحكتها المجلجلة المتواصلة المزعجة سيطرت على سمعه وضيّقت عليه أنفاسه، ليته يفهم لماذا؟.
أعاد النظر إليها مشدداً من نظراته، زاماً شفتيه علّها ترعوي، إلا أنها ازدادت بشاعة وإصراراً على تطويع ملامحها لتبدو منسجمة مع سخريتها ودرجة استخفافها به وكأنها تحترف مطاردته في وتيرة تصاعدية لإنجاز مهمة جليلة!.
الأوراق المتساقطة من الأشجار ملأت جنبات الطريق، وملأت روحه بالأسى والالتياع. أمعن النظر بها مدهوشاً.
لا ريب قد تجاوزت العقد الخامس من العمر، ملطخة الوجه بأرخص أصناف المساحيق، ذات أسنان كبيرة صفراء متناسقة. كاد يضحك من التناسق الواقع في غير تناسق، وهي على نحولها ذاك تبدو جنية أو ساحرة، أو على الأقل امرأة سوء أو شريرة!.
لعلها عرفت وجهته في ذلك اليوم بالذات؟.
استبعد هذا الخاطر. لا أحد يدري غيره هو وزوجته إلى أين وجهته.
ولكنه لم يستبعده كثيراً، حدّق في المرأة وتذكر زوجته، لعلها على معرفة بها من قريب أو بعيد، ولماذا لا تكون؟ ألم تكذب عليه زوجته ذات مرة شهوراً عديدة مُخْفية من سني عمرها سنتين كاملتين. لعلها كذبت عليه حينما أخبرته أن أحداً لن يدري أنه سيذهب في أول يوم صحو إلى ذلك الموعد!.
نزل من الحافلة بعد أن شعر أنه مكث بها أعواماً عدة من كثرة العنت الذي لقيه من سخرية ضحكات تلك المرأة الغريبة، صديقة زوجته!.
سار متباطئاً، كان يبدو بأنه سيسقط بعد خطوات مهدوداً من الداخل والخارج.. ماذا لو لم يفهم مضيفه أنه يبكي، وتسقط دموعه مع أوراق الشجر كل خريف؟.
دقق في لافتات كثيرة منتشرة على واجهات العمارات الضخمة في ذلك الشارع الضيق قليلاً، ثم استدار فجأة واطمأن إلى أن المرأة الغريبة ليست وراءه، فدلف مبتسماً لأنه نجح في الاختباء عنها في إحدى العمارات.. عدل عن ركوب المصعد معاقباً نفسه على ظنه السيئ بزوجته وعلى تصويره الأشياء بصورة مغايرة لما هي عليه، وتمنى زوجته قربه كي يقدم لها أصدق الاعتذار، «فما هذه المرأة الغريبة إلا مجنونة أو عابثة في أحسن تقدير! وما أنا إلا واهم خرف».
وصل الطابق الخامس لاهث الأنفاس، واتخذ وجهه هيئة مَنْ أُغشي عليه.
عَدَّل من وضع قميصه، وسريعاً مسح نظّارته ثم مسح حذاءه بجواربه وجفف عرقه، وقرأ اللافتة ذهبية اللون الأنيقة: «عيادة الطب النفسي».
قرع الجرس وانتظر قليلاً..
ففُتح الباب بهدوء مبالغ فيه.
تنبّه إلى ذلك.
ما إن رأته حتى دوّت ضحكتها المجلجلة المتواصلة المزعجة.
جمال القيسي
المفضلات