نظرت إلى وجهها, كان شاحباً بصورة مريعة, حدّقت في عينيها فكان الدمع يغمرهما ويفيض على خديها وينساب مراراً حتى يصل إلى رقبتها. شفتاها ترتجفان يداه متصلبتان وكأنهما متشنجتان.
إلى جانبها كانت تقف ابنتي التي بالكاد كانت قادرة على الوقوف بل وأحياناً كانت تستند على سرير أمها, عانقتها فضمتني بقوة حتى كادت أن تكسر عظامي وهي ابنة الثمانية أعوام, نظرت إلي نظرة لن أنساها أبداً ما حييت, حاولت الكلام لكنها عجزت ابتعدت قليلاً وجلست على أحد المقاعد حاولت أن أفسر ما قد تقوله تلك الزوجة الرائعة والأم الحنونة التي أشبهها إلى حد ما بطفلة رضيعة فهي لم تعرف الحقد أبداً لم تعرف الحسد أبداً لم تعرف إل الله وزوجها قصيرة اللسان في الأمور الدنيوية كثيرة الذكر والتسبيح فهي كالأشجار تسبح لخالقها تتحمل الألم بصبر غريب كصبر أيوب تتحدث عن الموت وكأنه ظلها كانت تتوقعه في كل لحظة, زوجتي لثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسة وخمسين يوماً لم أسمعها تشتكي لمخلوق إلا للخالق كانت تحظى بالتعاطف من كل من عرفها لأنها كانت بسيطة مسالمة خدومة جداً لكل من نشدها.
ألف وثلاثمائة وسبعون يوماً فترة مرضها كانت تذهلني بصبرها كانت تأكل ما يبقيها على قيد الحياة وتقول أنا آكل من حقي في الدنيا كانت وكانت وكانت كانت........ كانت دنيتي الجميلة.
فجأة بلا سابق إنذار خطفها ملك الموت وبالمشيئة الربانية تركتني وطفلتاي لقدرنا المكتوب انتزعت روحها بسرعة أذهلتني وأذهلت الناس وأحدثت صدمة لي ولكل من عرفها حق المعرفة وتم إعادتها لي بنعش جسداً بلا روح فبكاها الجميع بحرقة وتجمع الناس ليحملوها على الأكتاف لتدفن تحت التراب لكن الأهم من قصة موتها بمرض تكسر صفائح الدم وأكتئاب النفاس الحاد هي تلك الدموع الزائفة الكاذبة في أعين الكثير منهم.
أربعة سنين تعاني المرض ونعاني معها كل معاني الفقر والشقاء بسبب العلاج وتوابعه لم يفكر أحد ممن بكوا أن يزورها ولو لمرة بحاجه لمن يطعمها ولمن يخدمها كانت رحمها الله لا تستطيع المشي الا بمساعدتي
وكان من طبيعة مرضها ان تتعصب في بعض الأحيان فتضربني على وجهي فأجلس لأبكي ليس من ضربها بل عليها كنت اتوسل اليها لأخذ العلاج فترضى تاره وترهقني تاره اخرى ولا اقول تعذ بني
فعذابي لأجلها يبهجني لأنني أحببتها ولا زلت أحبها وسأبقى أحبها وللأسف كان حاملوا النعش يطلبوا مني تطلقها او ارسالها لأهلها او الزواج
كل هذا وحاملي النعش يتفرجون إذن هل البكاء في هذه اللحظة له معنى إلا النفاق ومن يخالفني الرأي فليقل لم تكن بحاجة لدموعكم كنا بحاجة لزيارة لوجه الله لتفرح تلك المريضة كفاكم كذباً ونفاقاً اللهم اشهد أنهم بنظرنا كذبة.
كنت كأي مواطن عادي لا أملك إلا صحتي وهي من الله أستيقظ قبل طلوع الفجر لأقوم على خدمتها في مناطق الأغوار حيث الطقس مثل جهنم الحمراء في الصيف لا أستطيع تركها كثيراً ولم تحظى بحقوق ولا ضمانات صحية ولا اجتماعية ولا تأمين بل تجاوزنا كل هذا معتمدين على الله ومررنا بظروف اقتصادية دفعتنا للاستدانة والإنفاق على العلاج كل هذا وحاملي النعش يتفرجون ونحن لا نجد قوت يومنا بل كان منهم من رفع دعوى قضائية وأخذ حكماً بالحبس ضدي بمبلغ تافه لم يراع فيها ظروفنا وعند حمل النعش يذرف الدموع ماذا يقال في هذا.
ماتت زوجتي ماتت ماتت أم أبنتاي ماتت بصمت وبلا ضجيج لم تكن يوماً تتحدث عن رغد العيش ولا عن الرخاء والترف وكان حلمها الأكبر أن تموت على طاعة الرحمن لكنه غول الفقر والذي لا يجد من يحاربه بصدق ليجتثه من جذوره ويخلصنا من شروره.
لم نستطع كعائلة الانتصار على الفقر ولا يمكن لأمثالنا التخلص منه.
ماتت وأنا أعتبرها عظيمة بكل معاني الكلمة عظيمة حتى فيموتها حتى بفراقها وأنا متأكد أنها وبنعشها تضحك وتقول الآن تبكون أين كنتم أنا بريئة منكم وأنا أقول أنا برئ منكم ومن كل من ينظر وكل من يبكي لأنكم والله مخادعون, منافقون.
في يوم الحساب سيقول لكم الأعور الدجال تفضلوا أيها السادة
تفضلوا أيها المعلمين
حسبي الله ونعم الوكيل حسبي الله ونعم
الوكيل حسبي الله ونعم الوكيل
رحمك الله يا أم الصابريين
رحمك الله يا أمي ويا أبتي
وحبيبتي وزوجتي
وقاهرتي ببعدك أقسم
أني احبك
المفضلات