الإيمان كنز المؤمن ولغز الكافر [ ج 2 / ف 1 ]
في حديث نادر يخبر صلى الله عليه وآله وسلم في وصيته لأبي هريرة : (عليك يا أبا هريرة بطريقة أقوام إذا فزع الناس لم يفزعوا ، وإذا طلب الناس الأمان من النار لـم يخافوا، قال أبو هريرة : مَن هم يا رسول الله حلّهم وصفهم لي حتى أعرفَهم؟ قال: قوم من أمتي في آخر الزمان يُحشرون يوم القيامة محشر الأنبياء ، إذا نظر إليهم الناس ظنوهم أنبياء مما يرون من حالهم، حتى أعرفهم أنا فأقول: أمتي!! أمتي!! فتعرف الخلائق أنهم ليسوا أنبياء ، فيمرون مثل البرق والريح، تغشى أبصارَ أهلِ الجمع مِن أنوارهم!! فقلت: يا رسول الله، مر لي بمثل عملهم لعلي ألحق بهم، فقال: يا أبا هريرة ، ركب القوم طريقا صعبا، لحقوا بدرجة الأنبياء ، آثروا الجوع بعد ما أشبعهم الله ، والعري بعد ما كساهم ، والعطش بعد ما أرواهم ، تركوا ذلك رجاء ما عند الله ، تركوا الحلال مخافة حسابه ، صحبوا الدنيا بأبدانهم ، ولـم يشتغلوا بشيء منها ، عجبتِ الملائكة ُوالأنبياءُ مِن طاعتهم لربهم ، طوبى لهم!! طوبى لهم!! وددتُ أن الله جمع بيني وبينهم، ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إليهم، ثم قال: إذا أراد الله بأهل الأرض عذابا فنظر إليهم صرف العذاب عنهم، فعليك يا أبا هريرة بطريقتهم، فمن خالف طريقتَهم تعب في شدة الحساب ) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ...
فهم أناس نالوا خصوصيتهم من الله بالأدب و العجز والافتقار المطلق له في الغنى والفقر، وتميزوا بالتسليم الكامل وكثرة السجود فكان إيمانهم إيمان العجائز ومنهاجهم العمل شكراً ومصداق ذلك قوله تعالى : ( ...... اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ : 13].
سأل الإمام الأعظم "أبو حنيفة النعمان" إعرابي من البادية ، توسم فيه الفقر المعنوي والمعرفة بالله : " بما عرفت ربك " ؟
فقال : " سبحان الله ... إن البعر يدل على البعير و إن الأثر يدل على المسير؛ فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج أفلا يدل ذلك على الحكيم الخبير .
انظر لتلك الشجرة ذات الغصون النضرة كيف نمت من حبة وكيف صارت شجرة فانظر وقل من ذا الذي يخرج منها الثمرة ذاك هو الله.
انظر إلى الشمس التي جذوتها مستعرة فيها ضياء و بها حرارة منتشرة ، من ذا الذي أوجدها في الجو مثل الشررة ، ذاك هو الله
انظر إلى الليل فمن أوجد فيه قمره وزانه بأنجم كالدر المنتثرة ، ذاك هو الله .
انظر إلى المرء وقل من شق فيه بصره من الذي جهزه بقدرة مقتدرة ذاك هو الله الذي أنعمه منهمرة ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدرة
فقال الإمام الأعظم : " اللهم أرزقنا إيمان العجائز ."
ويروا أن عجوز من أهل الفقر بالله والإيمان ، رأت الناس متهافتين على رؤية الإمام العلامة الكبير"فخر الدين الرازي" ، صاحب التفسير الشهير "مفاتيح الغيب" عندما كان يزور بعض الإنحاء وحوله أتباعه وتلامذته الكثيرون.
.فعندما سألتهم عمن يكون هذا الذي تتهافتون على رؤيته قالوا لها ألا تعرفين من هذا .....هذا الذي عنده ألف دليل على وجود الله.
فقالت :لو لم يكن عنده ألف شك لما كان عنده ألف دليل .فلما سمعها الإمام تقول هذا بكى وقال :اللهم إيمانا كإيمان العجائز.
علماً هذا العالم هو أول من فسر حروف القرآن ومنها " طه " وهو مخاطبة من الله لرسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى "يا طاهراً من العيوب ، يا هدياً لعلام الغيوب " ...
وقد صح عن شيخي الروحي سلطان العارفين "أبو يزيد البسطامي " قدس سره العزيز أنه قال: ( رأيت الحق في منامي يقول لي : يا أبا يزيد إنك عندي مقرب ، بأي شيء تقربت إلي ؟ ، قلت : بالزهد بالدنيا يا رب ، فقال يا أبا يزيد : أولم تعلم أن الدنيا لا تساوي عندي جناح بعوضة ، ففيما زهدت ؟ قلت : إلهي! . أستغفرك فاغفر لي سوء أدبي ، فإن أذنت لي فقد تقربت إليك بمعرفتي بك ، فقال يا أبا يزيد : أولم تعلم أنك ما عرفت بي إلا القليل " وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً " ، فماذا عرفت ؟ . قلت : أستغفرك ربي فأنت حسبي ، فقد جئتك بك وبعجزي وافتقاري إليك. فقال عز من قائل : الآن أقبل فقد قبلناك(. ...
( الإيمان إقبال على الله وعكسه الإعراض أي الكفر الذي يعاكس الإيمان ؟! ) .
فهم أولياء الله وأولياء رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقد قال سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن أوليائي منكم المتقون ) ، رواه البزار في " البحر الزاخر" ، والهيثمي في "مجمع الزوائد"، و الوادعي في "الصحيح المسند" ، وحكمه : صحيح ...
وهم رفقاء رسول الله بالجنة لكثرة سجودهم لله ، وهم عرائس الرحمن كما أخبرنا بذلك سلطان العارفين "أبو يزيد البسطامي " فقد قال فيهم الله عز وجل في الأثر القدسي : ( أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري ) ، رواه الزركلي في "الأعلام...
سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أولياء الله ، فقال : ( أولياء الله من إذا رؤوا ذكر الله ) ، رواه الإمام أحمد في "مسنده" بإسناد حسن بلفظ { خيار عباد الله } ، أبو نعيم في "الحلية" ، و البزار في " الأحكام الشرعية الكبرى" ، و المروزي في "زوائد الزهد" لـابن المبارك ، و الطبراني في "الكبير" ، و أبو نعيم في "أخبار أصبهان" ، و الضياء في "المختارة" ... ...
وخصوصيتهم في خمس صفات كما ورد في كتاب الله عز وجل وأهمها قيام الليل أو صلاة التهجد ( المستغفرين بالأسحار ) لقوله تعالى : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ) [آل عمران : 17] .
فوصفهم جل وعلا بالصابرين ، و الصبر هو "ضبط النفس في حال القهر" لأن الولي مقهور بحقيقة التوحيد فيرى كل شيء من الله ويصبر ، كصبر الأنبياء أي صبراً جميلا ...
فالصبر رأس الإيمان لأنه ضياء قلب المؤمن كما أخبرنا سيد الأولياء والمتقين صلى الله عليه وآله وسلم .
لقوله تعالى : ( أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً ) [الفرقان : 75]
قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن من أقل ما أوتيتم : اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطي حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار ) . رواه السبكي "الابن" في "طبقات الشافعية الكبرى" ، و العراقي في "تخريج الإحياء" ...
ويقول الله تعالى بالحديث القدسي : ( إذا ابتليت عبدي المؤمن فصبر فلم يشكني إلى عواده أطلقته ، من إساري ثم أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه ثم يستأنف العمل ) ، رواه البيهقي في " شعب الإيمان" ، و البيهقي لا يروي الضعيف ...
قال تعالى : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة : 155] .
وورد بالأثر : ( أهل البلاء أهل الله وخاصته ) .
والصادقين من جعلوا داء النفس دوائها ، فخالفوها بهواها ، وعاهدوا الله على تقواها ، لأن الصدق برهان الإيمان ، وبرهان الأولياء أن تكون قلوبهم خالصة لله وحده ، لقوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) [الأحزاب : 23] ، و النتيجة أنهم كانوا لله قانتين فالقنوت ( هو الانقطاع بالرجاء إلى الله ) وهم لا يرجون من الله إلا الله ، فتولهت قلوبهم ذكر حبيبهم الأعظم ، فزهدوا الدنيا لفرط ما ذاقوا من نور محبة الله فأنفقوا الغالي والرخيص ابتغاء مرضاة المحبوب وابتغاء وجهه فكانوا من المنفقين وهي السمة الرابعة .
وهم المستغفرين بالأسحار حيث قمة القرب من الله بالسجود وجوف الليل كما أخبرنا بذلك سيد الأولياء صلى الله عليه وآله وسلم بالتهجد لله في جوف الليل والناس نيام والاستغفار عند المتقين أو أهل الولاية يكون بتطهير القلوب بنور الله من كل ما دون الله تفرداً به عمن سواه ، حتى يبلغوا مقام الفناء به ، وهو الفوز العظيم ، ( الشيء العظيم هو الذي لا حدود له ؟! ) .
لقوله تعالى : (ِإنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [التوبة : 111] .
وقوله عز من قائل : (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الأنعام : 162]
وقد قال الغوث الصمداني وتاج الأولياء الثاني " أبو حسن الخرقاني " قدس سره العزيز : ( اليوم لي أربعون سنة ، والله ينظر إلى قلبي ، فلا يرى فيه غيره ، وما بقي فيَ لغير الله شيء ، و لا في صدري لغيره قرار ) ...
ومن هذه الصفات الفضلى تشكل لديهم تشريع خاص ، فقد روي عن إمام مذهب الفقه الحنبلي الإمام المحدث "أحمد بن حنبل " ، أنه أراد أن يختبر علم الأولياء في فهم التشريع ومعرفة أحكامه ، فرتب لقاءاً مع الإمام المعروف "معروف الكرخي" قدس سره عن طريق مريده الصوفي " أبو حمزة البغدادي أو الصوفي" ،حيث جرى بين الكرخي قدس سره وبين الإمام أحمد حوار فبدأ ابن حنبل الحوار ، قائلاً : أخبرني يا إمام عن حكم سجود السهو في فريضة الصلاة ، فأجاب قدس سره : عندنا أم عندكم فأجاب الإمام أحمد متعجباً ! ، عندنا وعنكم فقال : أما عندكم فيكون السهو إن تاه المصلي عن واجب من واجبات الصلاة ، وأما عندنا فيستوجب العقاب ذلك لأن العبد ألتفت عن ربه وهل للعبد أن يلتفت عن ربه ، فذهل الإمام أحمد من إجابته ، ثم سأله ما هو مقدار الزكاة إذا حال عليها الحول ، فأجاب قدس سره ، عندنا أم عنكم ، فأجاب ابن حنبل ، عندنا وعندكم ، فكان الجواب : عندكم مقدار الزكاة هي ثُمن الخُمس من النصاب ، وأما عندنا فالعبد وما ملكت يمينه لربه ، فذهل الإمام أحمد من جديد ثم قال : متى يستوجب الحج ، فقال عندنا أم عندكم فطلب منه الحالتين فأجاب عندكم في حالة الاستطاعة بالمال والبدن ، وعندنا الحج لمن حج وعرفة لمن عرفه ، هنا أيقن الإمام أحمد بعلو مقام آهل الولاية وصلاحهم في علم الدارين ، وقال لأبنه يا بني إن جلست في غيري مجلسي هذا فلا تجالس إلا من أسموا أنفسهم بالصوفية فقد زادوا علينا بكثرة العلم والزهد والمراقبة والصبر وعلو الهمة ، وقد أخذ عنهم آداب السلوك إلى الله حيث قال : ( تعلمت العلم في سبعة سنين وتعلمت الأدب في سبعة سنين وليته كان كله أدب ؟! ) .
وقد أطلعهم الله على شيء من غيبه لأنهم رسل مكلفين بخواص خلقة وفق قوله عز من قائل : (َعالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً ۞ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً [الجن : 26- 27] ).
ولنا في قصة الولي الصالح مع سيدنا موسى علية الصلاة و السلام أكبر الدليل من خلال خرق السفينة و قتل الصبي و إقامة الحائط وهي مغيبات أطلعها الله للخضر العبد الصالح ليعلم سيدنا موسى سر ووحدة التصريف و التسيير و التحكم الإلهي .
لقوله تعالى : ( .............. َمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ) [الكهف : 82] ...
لأن الولي حسب تعريف العارف بالله سهل بن عبد الله التستري : "هو من توالت أفعاله بالموافقة" أي التوفيق و الموافقة الإلهية.
نهاية الفصل الأول من الجزء الثاني ...
المفضلات