الحبُّ ما الحب؟ أساس العلاقات، وعماد الصداقات، و معقد الروابط، وصمام
الوشائج، والعلاقة تكون في أوج مراتبها، وأسمى درجتها عندما تبنى على الحب.
ونظراً لعظمة الحب،وعلو مكانته جعله الله تعالى قوام العلاقة القائمة بين الأخوة
فيه؛ يقول سبحانه{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ
إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ومعنى أولياء أحباء يحب بعضهم بعضاً، وينصر بعضهم بعضاً. واقتضت
سنة الله ألاَّ يكون الحب بين الأخوة على درجة واحدة قوةً، ومتانةً ، فمن المحبة ما تعد مثالاً
يُدْهَشُ منها علواً، وصلابةً، وتضحية، ومنها ما هو دون ذلك منزلة، ومنها دون ذاك منازل،
كما يقول الشاعر: والناس في الحب أخياف... . لأجل ذلك لم يطالب الإسلام- وهو ذلك
الدين الخبير بأحوال النفس - بأن يكون حب المسلم لأخيه حبًا يتعدى حدود الطاقة، ويتجاوز
ما لا تحتمله النفس البشرية، أو يشق عليها، وإنما جعل لهذه العلاقة الأخوية درجة دنيا
لا ينبغي للمسلم أن ينزل عنها، وهي حفظُ الأخ لأخيه في ماله وعرضه، وتفادي هتك أسراره،
وأستاره، ونصرتُهُ إن كان مظلوماً، وردُّهُ للحق إن كان ظالماً، ومشاركتُهُ في فرحه، وترحه...
كما جاء في الحديث الثابت( حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ
وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ). وعلى المسلم أن يعطي هذه العلاقة حقها،
ويفيها قدرها، كما جعل لهذه المحبة درجة عليا لا يصح تعديها، ولا يحق تجاوزها، فتعديها مظنة
الإفراط، وتجاوزها أمارة الكلف، كما جاء في الحديث (أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ
بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا )،
و ورد في مشهور حكم الفاروق( لا يكن حبك كلفًا، ولا بغضك تلفًا)، فالأخوة
مبدأ قيم أصيل واقعي ما دام وسطًا، فلا إفراط ولا تفريط، ولا مغالاة ولا مجافاة
. و تبادل الحقوق عامل مهم في استدامة الأخوة، وتعميقها، فكما يحب أحدنا
أن يسمع طيب القول من أخيه عليه أن يُسمع أخاه ذلك، وكما يحب أن يزار، عليه
أن يزور، وكما يتوجه إلى أخيه بالعتاب الخفيف عليه أن يهيئ نفسه لتقبل العتاب...،
بل إن الأولى أن يكون هو المبادر إلى ذلك وأمثاله، والمبادئ لما يدخل السرور على أخيه،
ويقوي من علاقتهما، ولا ينتظر من أخيه أن يسبقه لذلك، لأنه يفعل ذلك ابتغاءً للأجر،
والتماساً للمثوبة أولًا. و ليس من الجيد أن نرفع سقف آمالنا ومتطلباتنا من أخواننا؛
لأن بعضاً من هذه الآمال قد لا يتحقق، ولأن طلب الكمال، والمثالية بعيد المنال،
عزيز التحقق، والإسلام دين الواقعية التي تعترف ببشرية الإنسان، وقصوره عن بلوغ
الكمال في كل شيء. وما الصورة السوداوية- التي رسمها الشاعر العربي- وغيره
كثير-عن الخل الوفي بقوله :لما رأيت بني الزمان وما به/ خل وفي للصداقة أصطفي.
فعلمت أن المستحيل ثلاثة/ الغول والعنقاء والخل الوفي. والتي أضحت حاضرة في
أذهان بعضنا عند ذكر الأخ أو الصديق- إلا نتيجة للمثالية المحلقة في سماء الخيال،
والسقف المرتفع الذي يلامس السحاب أو يكاد. ولئن كانت العلاقات بين الأخوة قد
يعتريها بعض الكدر، وينتابها بعض التغير، فيشعر أحدهما بأنه يبذل الكثير، ولا يبادل
بالبذل نفسه، أو حتى بالقليل منه، ويعطي المودة والصفاء، ولا يجد إلا الجفوة والصدود
إن المؤمن الواعي – في هذه الحالة – لا يتصرف بسلبية حيال هذا الموقف، بل يتفاعل
معه على من أنه من الأمور المتوقع حصولها، ويتعامل معه على أنه من الحوادث التي
قد تقتضيها طبيعة الإنسان، فيهيئ نفسه لذلك، ولما هو أعظم منه، ويستمر في
بذل حق الأخوة ، ويستشعر دائماً أن أداءه لحق الأخوة ليس لذات الشخص بقدر
ما هو أداء لواجب شرعي يثاب عليه، فإن ذلك أجدى نفعاً من أن يبادل الجفاء بالبعد
والصلف، والسلبية بمثلها. ولا ريب أن التصرف بالإيجابية المذكورة سيأتي ثماره
ولو بعد حين، {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }.
أخلقْ بذي الصبر أن يحظى بحاجته/ ومدمنِ القَرْعِ للأبواب أن يلجا. على أن الإنسان
إذا لحظ من أخيه تقصيراً دائماً في واجب الأخوة، فلا تثريب عليه في إخباره، ونصحه،
وعتابه عتاباً لطيفاً خفيفا، فلعله كان غافلًا عن تقصيره، فينتبه، و يعيد ماء الوصال
رقراقًا يروي دوحة الأخوة والصداقة، فتثمرة محبةً ووفاءً وعرفانًا تعين على تجاوز مراحل
الحياة ومفاوزها، وتضفي عليها لمسات من الجمال تخفي شيئًا من تجاعيد الحوادث،
وتنسي بعضًا من جراحات الزمان.
الكاتب:
الأستاذ/ طالب بن علي بن سالم السعدي
المفضلات