إبراهيم كشت- يقول الكاتب البرازيلي (باولو كويلو) في روايته الشهيرة التي تُرجِمتْ إلى العربية تحت اسم (الخيميائي) : (( يحاول الناس تغيير حياتنا ، وإذا لـم نكن مثلما يتمنون أن يرونا يستاؤون ، لأن الناس جميعهم يعتقدون بأنهم يعرفون بالضبط كيف ينبغي أن تكون حياتنا ، مع أنه لا أحد منهم يعرف اطلاقاً كيف ينبغي له أن يعيش حياته )) .
كلٌ يريد أن يغيّر العالم ..!
وفي معنى قريب الى معنى مقولة (باولو كويلو) المتقدمة ، يقول الروائي الروسي المعروف (تولستوي) : (( نعيش في دنيا يريد كل واحد فيها أن يُغيّر العالم ، لكن لا أحد يفكر في تغيير نفسه )) . بينما يقول المفكر الأمريكي ستيفن كوفي : (( لا يمكن لأي شخص أن يُقنع الآخر بأن يتغير ، فكل واحد منا يحرس بوابة تغيير لا يمكن فتحها إلا من الداخل )) . وثمة كاتب آخر ، نسيتُ اسمه وجنسيته يقول : (( عندما تطلبُ مـن الناس أن يغيروا أنفسهم، فتذكّـر الصعوبة التي تجدها عندما تريد أن تغيّر أنت نفسك )) .
لماذا نهتم أكثر بتغيير الآخرين ..
فعلاً ، نحن نهتمُّ غالباً بتغيير سلوك الناس وعاداتهم ، أكثر مما نهتمُّ بتغيير مشاعرنا وأفكارنا ومعرفتنا وعاداتنا وقدراتنا أو تطويرها ، ويبدو أن تفسير هذه الحقيقة يسير ، فتغيير أي عادة مـن عاداتنا الشعورية أو الفكرية أو اللفظية أو الحركية يستلزم الكثير ، فهو يتطلب رغبة صادقة ، واستعداداً للتضحية بلذة معينة ، والخروج على المألوف المستقر المريح ، ومقاومة ضغط التعود وسرعة الاستجابة الآلية ، ويتطلب العزيمة التي تضمن استمرارية التغيير واكتساب السلوك الجديد ، ومقاومة كل المعوقات والقوى المعاكسة في النفس والبيئة . ويصحُّ هذا القول كقاعدة ، سواء أكنا نسعى في تغيير عادة بسيطة كتناول فنجان القهوة في وقت معين ، أم كنا نسعى في تغيير منهج كامل في استجاباتنا وأعمالنا وأقوالنا . أما السعي في تغيير الناس فقد لا يتطلب سوى إمطارهم بوابل من العظات والنصائح ، ورشقهم بالأمثال الشعبية والأقوال المأثورة ، أو توجيه اللوم والعتاب والانتقاد إليهم ...
ومما قـد يزيد في تركيزنا على تغيير سلوك الآخرين ، أكثر من تركيزنا على تغيير أنفسنا ، أن تغيير جوانب من الشخصية أمرٌ فيه إقرار ضمني بما لدينا من سلبيات ، أو على الأقل إقرار بأن جوانب من شخصيتنا بحاجة إلى تطوير ، أما حين نتوجه لتغيير الآخرين فإننا ننطلق من شعور خفيّ بالاستعلاء ، وإحساس مختبئ بأننا أغزر منه علماً وحكمة ، وأكثر حرصاً على الصواب .
امتلاك الآخرين ... ومحاولة تغييرهم :
أَحسبُ أن التركيز على تغيير الآخرين أكثر من التركيز على تغيير الذات وتطويرها، سلوك ينتشر في المجتمعات النامية على نحو أكبر بكثير مما هو الحال في المجتمعات المتقدمة ، حيث تسود في مجتمعاتنا ثقافة تتضمن الاعتقاد بامتلاك الآخر ، ولو ضمن إحساس كامن لا نُقرُّ به صراحة ، بينما تفضحه أفكارنا وممارساتنا وأقوالنا علناً . فثمة إحساس لدى الزوج بملكيته لزوجته ، ولدى الأبوين بملكيتهما للأبناء ، ولدى العائلة أو العشيرة بملكيتها لأفرادها وللنساء منهم خاصة ، وتُعزز الأعراف والعادات هذه الاعتقادات بطبيعة الحال ، بحيث يبعث ذلك الاحساس بتملك الآخر الرغبة العارمة بالتحكّم بحياته وسلوكه وتغييرها ، كما يعطي هذا الاحساس بالملكية المبرر لهذه الرغبة والشرعية للسلوكات الناتجة عنها .
دائرة الاهتمام ... ودائرة التأثير ..
يذكّرنا التركيز على تغيير الآخرين أكثر من التركيز على تغيير الذات ، بالفكرة التي طرحها ستيفن كوفي في كتابه (العادات السبع للناس الأكثر فاعلية) والتي لاقت قبولاً وإعجاباً من الكثيرين ، وكانت موضوعاً لعديد من الدورات المهتمة بتطوير الذات ، ومضمون هذه الفكرة أن لكل منا في حياته دائرة (اهتمام) كبيرة ، وفي داخل هذه الدائرة دائرة أصغر هي دائرة (التأثير) ، بمعنى أن الأمور التي يهتم بها الشخص في حياته كثيرة ومتعددة ومتشعبة ، لكن الأمور التي يتمكن من تغييرها أقل بكثير عادة ، فأي واحد منا قد يكون مهتماً بالعديد من الشؤون السياسية والاقتصادية والإعلامية والتربوية والبيئية ، اضافة إلى اهتمامه بأُسرته وجيرانه ومجتمعه ومهنته وشخصيته ، ومعظمها أمور نهتمّ بها لكننا لا نملك التأثير فيها ، وبعض هذه الأمور قد يكون للشخص تأثير مباشر أو غير مباشر في تطويرها ، وهي أمور قليلة غالباً (وتمثل دائرة التأثير الصغيرة) . وأكثر ما يملك المرء التأثير فيه وتغييره وتطويره هو ذاته التي بين جنبيه ، وليس الآخر ، فإذا تمكن الشخص من توجيه نظرته إلى الإيجابية ، وسلوكه إلى المبادرة ، ومشاعره إلى الرقيّ ، وأفكاره إلى المنطقية والعمق ، واهتماماته إلى ما له قيمة ، فإن العالم من حوله سيتغيّر أيضاً .
وبعد ...
لعل الجهود والأوقات والطاقات التي نبذلها فيما يقع ضمن دائرة اهتمامنا وليس تأثيرنا، هي غالباً موارد مهدورة ، كان يمكن استثمارها في الجوانب التي نتمكن من التأثير فيها . وبتعبير آخر فإن التجربة والواقع يقولان لنا إن كثيراً مما نبذله من جهد في سبيل تغيير الآخرين ، إنما يكون على حساب الطاقات والأوقات والفرص المتاحة لتغيير وتطوير أنفسنا .
المفضلات