خطبة الجمعة 12/2/2010
عبدالرحمن أبوعوض
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ؛ أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار
لما نزل الوحي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء ، ثم نزل يرجف فؤاده إلى خديجة رضي الله عنها ـ والقصة معروفة ـ انطلقت به رضي الله عنها حتى أتت به ورقة بن نوفل ـ ابن عمها ـ ، فقال له ورقة : هذا الناموس ـ أي صاحب السر ؛ والمقصود هنا جبريل عليه السلام ـ الذي نزله الله على موسى ، يا ليتني فيها جَذَعاً ـ أي شاباً ـ ، ليتنى أكون حيًّا إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو مخرجيّ هم؟ " قال : نعم ، لم يأت رجل قَطُّ بمثل ما جئت به إلا عُودِيَ ،... الحديث
وبالفعل ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما إن بدأ جهره بالدعوة حتى نوصب بالعداء ، حتى من أقرب الناس إليه ، لذلك لما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل ، وإلى الحق ، وينذرهم من عذاب الله ، ويقول لهم : " اشتروا أنفسكم من الله ، أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم من الله ضرًّا ولا نفعًا، ولا أغني عنكم من الله شيئًا " ... قام أبو لهب ـ عم النبي صلى الله عليه وسلم وواجه النبي صلى الله عليه وسلم ـ وقال له : تبًّا لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؟
هكذا كانت ردة فعل أبي لهب ، الذي هو واحد من أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله عز وجل قوله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [سورة المسد: 1].
ومنذ تلك اللحظة تعرض النبي صلى الله عليه وسلم للأذى والعداء ، كما أخبره ورقة بن نوفل .
ومضى النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله عز وجل ، صابراً محتسباً ، لا يبالي بما أصابه ، مع أن قريشاً عادته صلى الله عليه وسلم ، وتفننوا في عداءه بالقول والفعل ، أما بالقول ؛ فقد اتهموه بالسحر والجنون ، قال تعالى : { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ِمنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ {الذاريات: 52 ـ 53 ، وقال أيضاً : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } ، كما أنهم اتهموه بالكذب ، وبأنه شاعر ، وغير ذلك من الصفات التي حاشا وكلا أن يتصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أما الأذى الجسدي ، فقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت ، وأبو جهل وأصحاب له جلوس ؛ إذ قال بعضهم لبعض : أيكم يجيء بسَلاَ جَزُور _ والجزور الناقة ، وسلاها ما تبقى من أثر ولادة الناقة _ بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد ، فانبعث أشقى القوم [ وهو عقبة بن أبي معيط ] فجاء به فنظر، حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضع على ظهره بين كتفيه ، وأنا أنظر، لا أغني شيئًا ، لو كانت لي منعة ، قال: فجعلوا يضحكون ، ويحيل بعضهم على بعضهم [ أي يتمايل بعضهم على بعض مرحًا وبطرًا ] ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد ، لا يرفع رأسه ، حتى جاءته فاطمة ، فطرحته عن ظهره ، فرفع رأسه ، ثم قال :" اللهم عليك بقريش " ثلاث مرات ، فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم ، قال : وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة ، ثم سمى : " اللّهم عليك بأبي جهل ، وعليك بعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة ، وأمية بن خلف ، وعقبة بن أبي معيط " ـ وعد السابع فلم نحفظه ـ فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القَلِيب ، قليب بدر .
وكان أمية بن خلف إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه ، وفيه نزل : { وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } [سورة الهمزة: 1] ، وأما أبو جهل فقد كان يجيء أحيانًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن ، ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع ، ولا يتأدب ولا يخشى ، ويؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول ، ويصد عن سبيل الله ، ثم يذهب مختالاً بما فعل ، فخورًا بما ارتكب من الشر ، كأنه لم يفعل شيئًا يذكر ، وفيه نزل : {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى} [القيامة: 31] ، وكان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة منذ أول يوم رآه يصلي في الحرم ، ومرة مر به وهو يصلي عند المقام فقال : يا محمد ، ألم أنهك عن هذا ، وتوعده ، فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره ، فقال : يا محمد، بأي شيء تهددني ؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديًا . فأنزل الله { فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } [العلق: 17، 18] .
وما هذا إلا بعض ما عانى النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى من أهل الشرك والبغي والعدوان ، وهو صابر يدعو إلى الله عز وجل ، مع أنهم حاولوا قتله ، وأخرجوه من مكة ؛ بل تبعوه إلى المدينة ، وحاربوه هناك ، وهو يبلغ ما أوحي إليه من ربه ، كما أمره الله عز وجل ، حتى تم هذا الأمر ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، فجزى الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خير ما جزى نبياً عن أمته .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى ، أما بعد :
الآن وبعد أن وصلنا هذا الدين ، بعد أن ضحى صلى الله عليه وسلم كل هذه التضحية ، لو سألنا هذا السؤال : ماذا قدمت لدين الله ؟!
قد لا يجد البعض جواباً ، وقد يقول البعض : وما عساي أفعل ؟ من أنا ؟ هناك الدعاة ، هناك الأئمة ، والخطباء ، ومن يظهرون على الفضائيات ، وغير ذلك من الأجوبة ، لكن جوابي سيكون من كتاب الله عز وجل ؛ لننظر في سورة النمل إلى قوله تعالى : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * } ، فهذا الهدهد طائر يحمل هم الدعوة إلى الله عز وجل ، ونحن نتعلم من هذا الطائر ، الذي يحمل هم الدعوة إلى الله رغم وجود نبي الله سليمان عليه السلام ، فلم يقل الطائر وما شأني ؟ ماذا أفعل ونبي الله موجود ؟ بل قدم للدعوة حسب طاقته ، اهتم بشأن هذه المرأة ومن معها ممن يعبدون غير الله عز وجل ، فاهتم بأمرهم وشأنهم ، وجاء بخبر يقين ، ...
وأنت تستطيع أن تقدم للدعوة .... ألا تستطيع أن تداوم على الصلاة ، وأن تأمر أهلك عليها ؟! ألا تستطيع أن تلتزم بنفسك ، والله عز وجل يقول : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (مريم: 54-55)، وقال أيضاً : " { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقًا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى } (طه:132( ، فتستطيع أن تلزم نفسك بشرع الله عز وجل ، وتستطيع أن تقي نفسك وأهلك من النار ، كما قال الله عز وجل :
{ يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } ، لذلك إذا حملت هم الدعوة فإنك تستطيع أن تقدم لهذه الدعوة بإذن الله .
المفضلات