كريمان الكيالي - عدسة: سهم ربابعة - ليس انتقاصا من قدر القرية ، زمان كان العيش في المدينة أو حتى زيارتها الحلم الجميل لكل من يقطن في الأرياف ، وكانت الهجرة إلى المدن نقلة نوعية في حياة الناس على المستوى الاجتماعي والاقتصادي .
تآكل في التربة الطينية ، تغير في المناخ ، تزايد سكاني وعمران عشوائي وتلوث بيئي وأزمات سير خانقة ، صورة صاخبة لمدينة لم يعد العيش فيها هو الحلم ، والضجيج أصبح هو أكثر ما يثير الاهتمام، دراسة حديثة لجامعة لندن تؤكد أن حياة المدن تعرقل من قدرة الناس على التركيز حيث الافراط الكبير في استخدام البصر والاصوات وزيادة حواس الفرد .
يوم الضوضاء
في يوم الضوضاء ، الذي صادف 28 نيسان2013 ،خرجت نتائج لأكثر من 120 الف استطلاع في ألمانيا أكدت بأن سكان المدن ذات الكثافة السكانية المرتفعة هم الأضعف والأسوأ في السمع ، فيما يشير تقرير لموقع يويك أليرت التابع للرابطة الأمريكية لتقدم العلوم، الى أن الضجيج يتسبب باختلالات في النوم، تؤدي الى عواقب صحية خطيرة، اما المعهدالوطني الفرنسي للاحصاءات فيعتبر الضجيج المسبب الاول لانزعاج سكان باريس، وفي الهند اتخذت المحكمة العليا قراراً عام 2005 بمنع إطلاق أبواق السيارات والمفرقعات ليلا، أما توقعات الامم المتحدة، فتشير الى أن النمو الحضري سيشكل 57% خلال عام 2020، بما يعني زيادة حجم الاضرار، التي يتسبب بها ضجيج المدن.
قبل مايقرب من خمسين عاما ، كانت غالبية المدن هادئة الا من ازعاج سيارات قليلة وبعض الصناعات والباعة المتجولين، لكن هذه الايام من الصعب ان يجد الانسان مكانا هادئا حتى داخل غرفة نومه ، عمان هي الأخرى كانت مدينة بلا ضجيج، حتى العمارات السكنية « الاسكانات «لم تكن معروفة ، البيوت كانت بجانب بعضها البعض ، واي عمارة لم يكن فيها أكثر من وحدتين سكنيتين، بعدد طوابق لا يزيد عن ثلاثة ، تستخدم لسكن العائلة الواحدة او يتم تأجير أحدها، بما يعني ان الحد الاعلى للكثافة السكانية في أي عمارة، لم يكن يزيد عن عائلتين أو ثلاث في نسيج جميل من التواصل الانساني والاجتماعي ، وكان الحلم المشترك للغالبية العظمى من الناس هو امتلاك بيت العمر في المدينة الحلم.
رحلة لا تنسى
يقول «أبو فيصل 58عاما» الذي يتذكر تفاصيل أول زيارة إلى عمان حين كان طالبا في المدرسة، جاء ليتسلم 5 دنانير من الاذاعة الاردنية بعد فوزه بمسابقة رمضانية ، جلس بين صناديق البندورة والخيار في بكب لنقل الخضار ولما وصل وسط البلد ، أكل كنافة من حلويات «حبيبة» وشاهد فيلما عربيا لايذكر اسمه في سينما زهران بشارع فيصل ، ثم اشترى هدايا لأسرته بالمبلغ المتبقي وعاد في نفس البكب مساء، كانت رحلة لاتنسى..
يتابع»ابو فيصل» :» أحببت المدينة ،عشت فيها، وبقيت علاقتي بالجذور ، زيارات في نهاية الاسبوع ، في منتصف تسعينات القرن الماضي ، اشتريت قطعة ارض، بمنطقة شمال عمان ، وغادرت للعمل في بلد خليجي، عدت بعد خمسة عشر عاما لأستقر في عمان، ولم أفرح بهذا السكن الهادىء الذي طالما حلمت به سوى تسعة اشهر فقط ،حيث قام مستثمر بشراء الأرض المقابلة لمنزلي، وبنى عمارة سكنية بثماني شقق، تبعه آخر بعمارة مماثلة ، وبعدها باقل من شهرين،بدأ انشاء أربع عمارات جديدة في الأرض المجاورة لمنزلي من الجهتين يمينا ويسارا، ضاع بيتي وسط العمارات والشقق، تحول الشارع الهادىء الى حارة مزعجة ، باصات مدارس لا تكف عن اطلاق الزوامير، واطفال يلعبون في الشوارع ، وسيارات بيع الاثاث المستعمل والخضار والاشتال الزراعية والغاز والباعة المتجولون وغيرهم».
المنطقة مخنوقة
يضيف «ابو فيصل « حصار سكاني من بيئات مختلفة ، حولنا 50 عائلة بعدد يصل الى 450 شخصا، معظمهم من الاطفال والعدد قابل للزيادة ،إضافة لأربعين سيارة في شارع لا يتعدى طوله 500متر ، لاتستطيع ان نفتح نافذة او نجلس على بلكونة بحرية ، وهناك احتمال للمزيد من العمارات ،حيث لا تزال بعض الاراضي الفارغة ،بالاضافة الى العائلات المقيمة أصلا بدورين او ثلاثة ، والمشكلة ليست في الشارع حيث اسكن ، بل في المنطقة التي اصبحت كلها عمارات سكنيةومنذ عام 2006 وانا أنام وأصحو على صوت «كمبريسات»، تدك الارض وتشيد عمارات جعلت المنطقة «مخنوقة» تغير مناخها ، اصبحت حارة جدا في الصيف، لايوجد بيت لا يعتمد على المكيفات ، مع انها قبل العمران كانت باردة نسبيا، تعقدت الخدمات كهرباء تنقطع باستمرار ، ماء شحيحة ونفايات كثيرة وضجيج بلا حدود ، لا أبالغ إذا قلت باني نادم وكم كنت اتمنى لو بنيت هذا البيت حيث مسقط رأسي .
معاناة كبيرة
من يقطنون الشقق أيضا غير راضيين ويشتكون ، فالسكن فيها أصبح غير مريح بسبب الاكتظاظ الكبير ، يقول» أبو سلمان « الذي اشترى شقة بمنطقة طبربور قبل أكثر من عشرسنوات بتسهيلات بنكية : عندما اشتريت شقتي لم يكن في الشارع سوى عمارتين ، كان جيراني 16 عائلة ، اليوم أصبح في الحي تسع عمارات بمتوسط 75 أسرة مع سكان التسوية ، أجد نفسي في مكان مكتظ بعمارات أشبه بالعشوائيات، معاناة كبيرة ، سكان كثر ، وأطفال حولوا الشارع الى ملعب كرة قدم ، وجيران لا تعرفهم ،ومضطر أن تتعامل معهم ، للاتفاق على تنظيف الدرج وموقف السيارات ودفع أجرة الحارس الخ.
لن ينتهي الحديث عن اغتيال الراحة والهدوء والبيوت بفوضى الشقق، لقد تحولت عمان إلى ورشة اسمنت لاتهدأ ، وكأن المستثمرين يستكثرون وجود مساحات فارغة من الارض وبعض السكينة.
المفضلات