حين تمّ خلق القلوب عرفت طريقها إلى صدور الناس ، مشت مثل طابور الأطفال لتدسّ نفسها في مخادعها بين الضلوع . صدرٌ واحد بقي مشرعاً ، مفتوح البوابتين ، معرضاً للجراثيم و الميكروبات و الأتربة و الغبار و التيبس و الجفاف و الصدأ .
قضى مجلس الأدمغة بالسماح لقفل المستودع أن يُفتح ، وُقّعت ورقة الشروع في جرد قطع غيار الأفئدة ، كانت تليدةً تالفةً و مطفأة أحدثُ دفعة القادمة قبل شتائين .
"القلوب تأتي من المصانع نفسها منذ عقود" همهم صوت الحل .. " من النعمة أنه لم يكن رأساً مفتوحاً"..
اقتطعوا من كل القلوب التالفة زواياها النابضة و إنْ نتنة ، و أجزاءها السليمة المتهالكة ، قلوب فائقة لجموع هائلة فاحشة التباين ، من أزمان مختلفة و لطبقات متعددة بظروف معقدة و أسرار داخلها كثيرة كثيرة منحوتة بالرموز ، مزَق صغيرة من هذه الجبال القلبيّية العظيمة خَلقت و صنعت الفؤاد المنقِذ .. الفؤاد الفذّ .. الفؤاد المكتمل الحيّ من بقايا قلوب الموتى .
و أودع في صدره ...
لم يكن ليعبأ بألوانه المرقعة ، و زوائد الخيوط المتناثرة من الشرايين و الأوردة التي لم تقص باحتراف ، المضخة تعمل ، تزوّد الجسد بشيء كما لو أنه أوصل بالتيار الكهربائي ، شيء يجعله ينطق و يرد و يرى و يسمع و يفهم ، و يحسّ .. نعم يحسّ ، إنه يعيش الآن ،إنه حيّ .. و كفى .
لمّأ شرعت مظاهره الحياتية تتفتق ، و بدأ يتلمّس الحياة ، يتعرف على العيش كما تتعرف صغار الغزلان بعد التأرجح على الوقوف ، ضايقته حكة في فؤاده ، حساسية أليمة تُذهب كل طاقته ، يخلع ملابسه يعرّض صدره للأسطح الحارة ، للجليد ، للترطيب البارد ، يستحم ، يحك بأظفاره ، يقرص مواطن الوخز ، يحك بالسكين .. لكن هذه الجحيم الغاضبة في داخله لم تكن لتهدأ .
أراد أن يستشير طبيباً ، و ما أن استخرج القلبَ المغمّس بالعفونة من صدره حتى نزّت أصوات و حركات مستقذرة من عين الطبيب و فمه ، أحسّ بالحرج و المسكنة و الظلم ..
"إنه ليس لي "
ضاقت عينا الطبيب مستفهمتين : عفواً ؟ ..
" القلب .. ليس قلبي أنا .. تجميع من المستودع .. الحقيقة أنهم بالكاد أقروا فتح المستودع ، نفدت القلوب في ذلك اليوم فاضطروا لاتخاذ قرار عاجل ، أنشئ من البقايا الصالحة .. يقولون أنها عملية آمنة و غير ضارة على اعتبار جميع الأفئدة تحاك من خامة صلدة ، و تحشى بنفس المادة الصلبة من قرون ، .. لكنني لا أعرف ، أعرف أنني أتألم كثيراً يا دكتور .. أشعر أنني سأموت مع كل نفس ، و أن روحي تنفذ داخل معقد إبرة في كل زفير ، و أن هذه المدية هذه الشفرة الحادة تستلني و تغرز أعضائي .. أحس أن فأساً هائلة تضرب أضلاعي و تكسرها كل لحظة .. أحس أن منجلاً يحصدني .. و الحكة يا دكتور.. الحكة تنهشني ، الحكة تقول حروفاً كثيرة لا أفهمها .. تضرب جدران صدري كما لو أنني أحبس بريئاً داخلي ، أحس بها .. هذه الرائحة مؤذية جداً أنا آسف يا دكتور ، لكنه ليس قلبي ... لا أريد أن أشمها .. لا أريد أن حس .. إنه ليس قلبي أرجوك تخلص منه يا دكتور .. إنه ليس قلبي "
أحكم الطبيب إبهامه و سبابته على أنفه ، قبض بيسراه القلب المتعفن و بدفعة نزقة هائلة قذفه في الصدر في مأتم شجي من النحيب .. ثم همس فاقداً الحيلة :
"عش" به مؤقتاً .
المفضلات