الصور الوافدة من اليابان تكسر القلب. بلاد ترتجف وترتجف. وأمواج تغتال الملامح. زلزال وتسونامي. آلاف القتلى والمفقودين. ركام قرى ومنازل. ولوعة الباحثين عن أحبائهم. وبلد متقدم يقف عاجزاً أمام مفاعلاته. مخاوف من الإشعاعات. إنها النكبة الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية. استخدمت الطبيعة الغضب المفرط في معاقبة تلك الجزر المقيمة على خط الزلازل. لم تنفع الإجراءات الاحترازية. جاء الزلزال استثنائياً بكل ما للكلمة من معنى. تسع درجات على مقياس ريختر.
أهرب من المشاهد اليابانية لأسقط في المشاهد العربية. لقد انتهى عصر الطمأنينة. عصر الديمومة والحبور. عصر الهدوء الكامل. والإذاعة الرسمية السعيدة. والتلفزيون الرسمي المغتبط. والصحف التي تختلف ألوانها وتتشابه عناوينها الوافدة من المباخر. أو وزارة الإعلام. أو دائرة الاستخبارات الساهرة على إسعاد المواطنين.
انتهى عصر الطمأنينة. عصر الوسادة الناعمة. والأحلام الوردية. وغياب المفاجآت والاشراك. ومواسم الحرير والمخمل. وقوافل المستشارين المداحين. والجموع المبتهجة بالتصريحات الرسمية. والخطة الخمسية. وبرامج محو الأمية. إن الوسادة مصابة بشعب من علامات الاستفهام. بقوافل لا تنتهي من الشوك والشكوك. وبفيض من المطالب والأسئلة. وبرائحة قلق موتور.
والحقيقة أننا لم نتحسب ولم نتحصن. اعتبرنا الزمن مستنقعاً مغلقاً بحديد السلاسل. وأن ما هو كائن اليوم سيكون دائماً. وأن من قبلوا البارحة سيقبلون غداً. وأن اللسان للمدائح. والأيدي للتصفيق. والأقلام للتوقيع على إفادات معدة سلفاً. وأن العواصف مرض ينتاب الآخرين. وأن الزلازل لعنة تصيب البلاد البعيدة. وأن الابن سيكون مطيعاً كأبيه. وأن الحفيد سينام في سرير جده. وأن تربتنا لن تجرؤ على ارتكاب الأزهار التي نبتت في حدائق شعوب أخرى. شعوب غدرت بنومها الطويل وغادرته الى مستقبلها.
لم نتحسب ولم نتحصن. وقلنا إننا لن نحتاج في أسوأ الأحوال الى ما هو أكثر من بضعة مساحيق. أو حفنة وعود. أو التلويح بأساليب الزجر وكسر الإرادات. أسرفنا في الغرف من الآبار التي لم تزرها الشمس منذ عصور. أسرفنا في الغرف من القواميس التي نبذتها الأيام.
فجأة اكتشفنا أننا نعيش فوق الزلازل. أن الأرض ترتجف تحت أقدامنا. أن أسئلة صعبة طرحت فجأة. وأن نفاد الصبر يضاعف غضب الناس. توهمنا أن مظلة تقليدية تكفي. وأن المسألة لن تتعدى بعض الرذاذ. شيء من المطر الناعم. والاهتزازات الخفيفة. وغاب عن بالنا أن المظلة ترد المطر ولا ترد الزلزال.
المنطقة ترتجف. ليس من حق أحد القول إن الأمر لا يعنيه. لا يمكن الاستقالة من الزلازل. طبعاً مع الاعتراف بالفروقات والخصوصيات. طبيعة النظام. وعلاقة الحكم بالناس. ودرجة تسليمهم بشرعيته. وشعورهم بأنه يعبر عنهم. أو يلتفت الى مطالبهم. ومقدار احترامه لحقوقهم وكرامتهم. وقدرته على مخاطبتهم. وقدرتهم على الوثوق برسائله.
لا مبالغة في القول إننا انزلقنا الى عصر الزلازل. حتى ولو تفاوتت قوتها من مكان الى آخر. وتباينت محاولات الاحتماء منها. واختلفت قدرة هذه التركيبة أو تلك على التكيف وحصر الأضرار.
يجب الاعتراف أن موسم الزلازل العربية فاجأنا. لم يكن سراً أن التوتر قائم هنا أو هناك. وأن الجموع ليست سعيدة بهذا الحاكم أو ذاك. وعلى رغم ذلك لم نتوقع اندلاع الحرائق في مسارح متعددة. وأن تذهب الزلازل بمن كانوا يعتقدون أنهم سيقيمون ويورثون. ليس بسيطاً أن يسارع زين العابدين بن علي الى المنفى للنجاة مما هو أدهى. وأن يعيش حسني مبارك قلقاً مما يمكن أن يصدره النائب العام. وأن تفتح احتجاجات في البحرين أبواب اختبار إقليمي حاسم. وأن يتذكر الكثيرون أن خط التوتر المذهبي يمتد من بغداد الى الكويت وصولاً الى بيروت. وأن الأردن وسورية لا يقيمان خارج قوس الاحتجاجات. وأن دم المتظاهرين يفاقم المأزق في صنعاء ولا يحله. هذا من دون أن ننسى عقيد «ثورة الفاتح» الذي أصر على مطاردة «الجرذان» الى حد استدعاء الزلزال الى أرض بلاده.
نملك من الأسئلة أكثر بكثير مما نملك من الإجابات. إننا في بداية مخاض قد يكون طويلاً ومؤلماً. إننا في أول الزلازل. يمكن أن تجرف زعماء. أو انظمة. وان تدمر وحدة بلدان. وان تطلق صراعات مذهبية او جهوية. وقد تتسبب في تدخلات وحروب. لقد انتهى عصر الطمأنينة. إننا نقيم من الآن فصاعداً على مقياس ريختر
المفضلات