يشارف الرئيس المنتخب باراك أوباما على تولي قيادة إدارة أميركية جديدة، يتوقع لها أن تبدأ منهكة معنوياً ومادياً في آن. غير أنه لن يفتقر تحت كل الأحوال إلى من يسدون إليه النصح والمشورة فيما يتصل بكيفية إدارة أميركا لعلاقاتها ببقية دول العالم وشعوبه.
وفي مقدمة هؤلاء الراغبين في إسداء النصح للرئيس في مجال السياسات الخارجية، دعاة كل من المثالية والواقعية على حد سواء. ولكن المتوقع أن يبذل أوباما ما في وسعه لتجنب كلا فريقي المستشارين، مفضلاً عليهما نهجاً آخر هو البراغماتية. وفي حال عدم نشاط كلا الفريقين في تقديم استشاراتهما لمن يرغب، فإنك تراهما وقد انهمكا في جدال وأخذ ورد بينهما.
يقول الواقعيون الذين يمثلهم وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر: بما أن العالم تعمه الفوضى العارمة، فإن على كل دولة من الدول أن تقدم مصالحها الوطنية أو القومية على كل شيء سواه. ويرى هؤلاء أنه لا مناص من تراكم القوة وحشدها، حتى تكون هناك ضمانة كافية لبقاء الدولة المعينة، حتى وإن كان ذلك الحشد يؤثر سلباً على الدول الأخرى.
لو تحرى أوباما نهجاً براغماتياً، فإن عليه إلحاق مشروعي الدرع الصاروخية وتوسيع الناتو بسجن غوانتانامو وممارسات التعذيب، اللذين وعد بوضع حد لهما.
وعلى عكس هؤلاء، يرى المثاليون الذين يمثلهم الرئيس الأسبق وودرو ويلسون -فيما يشبه إلى حد كبير معتقدات ومبادئ رودني كينج- أنه ينبغي للأمم أن تكون قادرة على التساوق فيما بينها. وهذا ما يوجب عليها التعاون مع بعضها البعض، لأن في تعاونها ما يعود بالنفع العام على الجميع. ويرى هؤلاء أيضاً أنه في ظل مجتمع العولمة الحالي، فليس في مقدور أي دولة من الدول أن تنفرد بنفسها عن بقية الدول.
على أن هذا السجال الواقعي-المثالي، ليس هو الوحيد المطروح في ساحة العلاقات الدولية. والمؤكد أن الخبراء يتبنون عدة مواقف وينحازون إلى فرق شديدة التباين أثناء خوضهم لعراك يتعلق بعالم ودول قلما يعرفون عنها شيئاً أو تربطهم بها صلة. غير أن التيارين الواقعي والمثالي هما الأكثر تأثيراً على سلوك الصحفيين والخبراء عند الحديث عن رسم السياسات الخارجية.
يذكر أن الرئيس بوش كان قد وُصف بكونه قائداً واقعياً عند تسلمه لمقاليد الرئاسة في عام 2000، وقيل عنه إن كان يهزأ من المشروعات التي لا تتسم بالواقعية مثل بناء الأمم. أما اليوم وهو يختتم أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، فقد شاع الاعتقاد بأنه غادر منصبه وقد تحول إلى مثالي مطلق. فلا شيء يغريه أو يقنعه أكثر من حقن دولة مستبدة بجرعة من الديمقراطية، حتى وإن استدعى ذلك اجتياحاً عسكرياً كبيراً لتلك الدولة من قبل القوات الأميركية على نحو ما حدث في كل من أفغانسان والعراق.
وعلى عكسه -كما يقال- كان الرئيس الأسبق بيل كلينتون قد تسلم منصبه وهو غارق في المثالية، ليغادر البيت الأبيض وهو في أشد ما تكون الواقعية.
فما إن يضطر أي رئيس للتصدي للحدود التي تبدي فيها الدول استعداداً للتعاون فيما بينها، حتى يجد نفسه وقد تحول إلى قائد واقعي رغم إرادته.
وهذا ما يعتقد أنه حدث لكلينتون بالفعل.
لكن، وبصرف النظر عما حدث من تحول في مواقف ونظرات الرؤساء السابقين، فإن على أوباما أن يطرح جانباً تلك النظريات الكبيرة السائدة، ويبني سياساته الخارجية على أساس براغماتي عملي. فميزة البراغماتية أنها ليست مقيدة بأية أيديولوجية كانت، بقدر ما هي معنية بإثارة الأسئلة العملية مثل: هل ينجح هذا؟ وليس في هذا الاتجاه ما يشير إلى رغبة في التخلي عن مبادئنا، بقدر ما يتطلب استساغة فن الممكن واستحسانه. وكثيراً ما بقيت البراغماتية -على طريقة الثنائية الحزبية- وعداً عالقاً لم يتحقق قط، في أكثر من موقف وقضية في تاريخنا السياسي.
يذكر أن هيلاري كلينتون، وزيرة خارجية أوباما، أكدت، خلال جلسة استماع مجلس الشيوخ التي عقدت الأسبوع الماضي، أن الإدارة الجديدة سوف تنهج نهجاً براغماتياً في سياساتها الخارجية. غير أن الوفاء بهذا الوعد القاطع لن يكون سهلاً. بل الأرجح أن تسفر الممارسة العملية عن نتائج سرعان ما يجد فيها الإعلام مادة يسود بها صفحاته وعناوين نشراته الإخبارية. وربما يتأثر نشاطها الخارجي سلباً بالضغوط التي تمارسها عليها مجموعة المصالح المحلية الأميركية. وسوف يوفر هذا القصور والعجز مادة لانتقادات كل من المثاليين والواقعيين.
لنضرب لهذا مثالاً باستراتيجية الدفاع الصاروخي وتوسيع حلف الناتو.
فالمعروف أن استراتيجية الدفاع الصاروخي تنسجم وفلسفة الواقعيين، إلى جانب التأييد الواسع الذي تحظى به من قبل مؤسسات البحث التي يرعاها مقاولو الدفاع. ولكن المعروف أيضاً أن نظام الدفاع الصاروخي لن يجدي إلا في حال وجود مهدد أمني فعلي ملموس. ومن جانبها، أنفقت الولايات المتحدة نحو 10 مليارات دولار سنوياً لنشره في أميركا. أما مساعي نشره في دول مثل بولندا وجمهورية التشيك، فقد أثار ثائرة حلفائنا الأوروبيين، إلى جانب إغضابه لخصمنا الروسي المحتمل. وفي الاتجاه نفسه دفعت واشنطن باتجاه توسيع حلف الناتو كي يضم دولاً جديدة مثل أوكرانيا وجورجيا. وهذا مسعى تقف دونه صعوبات التحول الفعلي لهاتين الدولتين صوب الديمقراطية.
وفيما لو تحرى أوباما نهجاً براغماتياً حقاً في سياساته الخارجية، فإن عليه أن يلحق مشروعي الدرع الصاروخية وتوسيع حلف الناتو بسجن غوانتانامو وممارسات التعذيب، اللذين وعد بوضع حد لهما. والسبب أن المشروعين المذكورين لا يتجاوزان كونهما رغبة لإدارةبوش في أن يكون لها إرث وذكرى وراءها. فليذهبا غير مأسوف عليهما مثلما سيذهب معتقل غوانتانامو إذاً.
المفضلات