* طفولته
عاش فلمنغ طفولته في أحضان الريف، حيث جمال الطبيعة الخلاب، وهو ما كان يخفف من قسوة الحياة والمعاناة من الفقر. ودرس في مدرسة لودون الابتدائية، حيث كان إخوته يدرسون فيها أيضا، وكانوا جميعا يذهبون إليها ويعودون كل يوم حفاة وسيرا على الأقدام، وكانت المدرسة تبعد عن منزلهم مسافة كيلو متر ونصف، وكانت أمهم في شتاء اسكتلندا القارس تزودهم بالبطاطا المسلوقة الساخنة لتدفئة أيديهم، وكان في المدرسة معلمة واحدة تدرس جميع التلاميذ في مختلف الصفوف.
بعد ذلك انتقل فلمنغ إلى مدرسة دارفل التي تبعد حوالي 6 كيلومترات عن منزله، وبما أنه كان متفوقاً فقد تقرر أن يتابع دراسته الثانوية فأصبح يذهب إلى كليمارنوك ويمشي حوالي 9 كيلومترات حتى يصل إلى المحطة ليركب القطار إلى المدرسة، وبقي على هذه الحال مدة سنتين.
* حادثة مهمة
أثناء طفولته جرت حادثة مهمة، فبينما كان والده يعمل في الحقل إذ سمع صوتاً لصراخ طفل يستغيث فجرى بسرعة نحوه حيث وجد طفلاً يكاد يغرق بالمياه الطينية في مستنقع قريب، فما كان منه إلا أن قفز وأنقذ الطفل، وفي اليوم التالي حضرت عربة فخمة ترجّل منها رجل تبدو عليه علامات الثراء، إنه والد الطفل وقد حضر ليشكر من أنقذ ابنه من الموت، وأراد أن يمنحه مبلغاً من المال لكن والد فلمنغ أبى، بشهامة ابن الريف، أن يتقاضى أي شيء عن عمل اعتبره واجباً لمساعدة الناس، وصادف أن خرج ألكسندر من الكوخ القريب، وعرف الرجل الثري أنه ابن الرجل المنقذ، فمسح على رأسه وسأله عن طموحه وعما يريد أن يكون في المستقبل فأجاب فلمنغ: إنني أريد أن أكون فلاحاً كوالدي، وسأله الرجل: هل لك رغبة أخرى؟ فأجاب: أريد أن أكون طبيباً ولكن..
فهم الرجل وأجاب: وعد مني سأساعدك في تحقيق أمنيتك، لقد كان هذا الرجل هو اللورد راندولف تشرشل، والد الطفل ونستون، الذي تم إنقاذه، وقد أصبح فيما بعد رئيس وزراء بريطانيا، وكان قد قدم مع عائلته ليستمتع بالعطلة في اسكتلندا حين حدث هذا الموقف.
* دراسته
عندما أنهى ألكسندر دراسته الإعدادية التحق بأخيه توماس، الذي كان يدرس الطب في لندن وكان عمره 14 سنة، وهناك التحق بمدرسة البولي تكنيك في شارع ريجنت، وأثناء اختبار السبر قرّر المسؤولون تسبيقه سنتين للأمام وذلك لمستواه العلمي الجيد.
* تحقيق الحلم
بعد أن أنهى فلمنغ دراسته عمل في شركة لشحن البضائع لمدة أربع سنوات، لكن حلمه في دراسة الطب ظل يرواده، وهذا ما كان، فقد التحق بكلية طب سانت ماري في جامعة لندن عام 1901، فكان أثناء دراسته متفوقاً، رغم أن بعض زملائه من أبناء لندن ممن كانوا يغارون من تفوقه كانوا يغمزون من قناته ويسمونه بابن الحقل، في إشارة إلى أنه ابن فلاح قادم من الريف، إلا أنه أثبت لهم أن التفوق يحتاج إلى دماغ نظيف أكثر من الحاجة لأن تكون ابن لورد أو مولوداً في أحد منازل الأحياء الراقية في المدينة، وتخرج في الجامعة بامتياز مع مرتبة الشرف، ونال الميدالية الذهبية عام 1908، ثم أصبح جراحاً ونال شهادة زمالة الجراحة (FRCS) عام 1909، لكن القدر كان يخبئ له شيئا آخر، فقد التقى في كلية الطب بالبروفيسور المروث رايت، الذي كان أستاذاً جامعياً في علم الأمراض وخبيراً في المعالجة باللقاح، وبالإضافة إلى ذلك كان رايت قوي الشخصية ومشهوراً جداً وعالماً في مجال دراسات المناعة، وكان وقتها يجري أبحاثاً للإجابة عن أسئلة صعبة في مجال المناعة الخلوية والمناعة السائلة، ومن هنا انضم فلمنغ إلى فريق البروفيسور رايت في مشفى القديسة ماري، الذي استرعى انتباهه وتأثر بطاقته العجيبة وذهنه المنفتح وبراعته التقنية، فلم يكن رايت أستاذاً لفلمنغ فحسب، بل أصبح صديقاً له، ثم أصبح محاضراً في الجامعة عام 1914، وتابع عمله في المختبر يجري أبحاثه في مجال تأثير الجراثيم على الجسم الإنساني وكيفية التغلب عليها.
* أول اكتشاف
أثناء الحرب العالمية الأولى أدى فلمنغ الخدمة العسكرية فأُرسِل مع البروفيسور رايت إلى مشفى عسكري في بولون بفرنسا، وهناك تابع بحثه العلمي واكتشف أن المواد المستعملة في تعقيم الجروح آنذاك ضارة أكثر مما هي نافعة للجسم، كما اكتشف مع رايت أنّ الغانغرين والكزاز ينموان في النسيج الميت المتنخر ويؤذيان النسيج الحي المجاور ليمتد المرض إلى أماكن أبعد فنصحا ببتر النسيج الميت لإيقاف المرض على عكس ما كان يمارسه الأطباء الآخرون.
بعد الحرب عاد فلمنغ إلى مشفى سانت ماري ليتابع أبحاثه، وهناك اكتشف مادة مهمة هي الأنزيم الحال للجراثيم (الليزوزيم)، ففي 21 تشرين الثاني 1921، وبينما كان فلمنغ يعاني من إنفلونزا شديدة ، أخذ قسما من مفرزات أنفه ووضعها في وعاء يحوي وسطاً لزراعة الجراثيم، وبعد أسابيع عديدة لاحظ نمو الجراثيم في وسط وعاء الزراعة، لكن ذلك لم يحدث في المنطقة القريبة من المواد المخاطية من مفرزات أنفه، واستطاع فلمنغ بمتابعة تجاربه استخلاص ما سماه الليزوزيم، ووجد أن هذه المادة يتم اصطناعها في الأنسجة والمفرزات الطبيعية مثل المخاط ، والدموع، وبياض البيض، وكان لها دور في إيقاف نمو الجراثيم.
* رمز عالمي
في العام 1928 تم تعيين فلمنغ كبروفيسور في علم الجراثيم، وتوافق ذلك مع حدث مهم جعل من فلمنغ رمزاً عالمياً في الطب والأبحاث وهو اكتشاف البنسلين. كان الحدث مصادفة، لكن العين الخبيرة لا تدع المصادفة تمر مجرد حدث عابر بل تستخلص منه الكثير.
كان فلمنغ يبحث لاكتشاف خصائص زمرة من الجراثيم تدعى الجراثيم العنقودية، وقد زرعها في أواني خاصة ثم يرسلها إلى قسم التعقيم بعد الانتهاء من العمل عليها، وفي إحدى المرات نسي إرسال الأواني للتعقيم وذهب في إجازة استمرت أسبوعين قضاها في منزله الريفي في سوفولك، وعندما عاد من إجازته في 21 كانون الأول 1928، لاحظ وجود عفن أخضر ضمن وعاء الزرع وضمن حقل الجراثيم ، لكنه لاحظ أيضا أن هناك هالة حول منطقة العفن لم تنم فيها الجراثيم أو كانت ميتة، وهنا قام باستخلاص خلاصة من هذه المنطقة الخالية من الجراثيم، والتي اكتشفت من خلال أبحاث لاحقة أجراها، ووجد أن المادة المستخلصة من العفن كانت فعالة ضد عدد من الجراثيم بما فيها جراثيم مؤذية جداً،
كان اسم العفن بنسيليوم نوتاتوم Penicillium notatun، ومن هنا أطلق على المادة المضادة للجراثيم اسم
البنسيلين penicillin .
نشر فلمنغ نتيجة أبحاثه في العام التالي 1929 في المجلة البريطانية للأبحاث المرضية، لكن ذلك لم يلق اهتماماً كبيراً من أحد، ونظراً لصعوبة إنتاج المادة الفعالة بكميات كبيرة، ولعدم ثباتها في الجسم البشري، لم يعد أحد يهتم بمتابعة أبحاثه عليها، لكن باحثين من جامعة اكسفورد (هوارد فلوري وآرنست تشين) حصلا على منحة مالية من الحكومة البريطانية والأمريكية ولم يفقدا الأمل من البنسلين، وتابعا الأبحاث وتمكنا من إنتاجه بكميات كبيرة عام 1939 ، وفي أيار 1940 حقنت أول جرعة بنسلين في وريد فأر مصاب وأظهرت قوته في إحداث الشفاء. في عام 1941 تم حقن البنسلين وريدياً في رجل شرطة كان لديه انسمام دم جرثومي، وبدأ عندها استعمال البنسلين في الجنود المصابين خلال الحرب العالمية الثانية وتم إنقاذ الآلاف.
فيما بعد تبين أن استعمال البنسلين مفيد لعلاج الكثير من الأمراض (الالتهاب الرئوي، والمفاصل، والسيلان، وانسمام الدم، والعظام، والسل)، ونال فلمنغ (مع فلوري وتشين) جائزة نوبل للفيزيولوجيا أو الطب في عام 1945.
* حياته الشخصية
تزوج فلمنغ في العام 1915 من ممرضة إيرلندية تدعى سارا ماريون، وقد كانت أختها التوأم اليزابيث قد تزوجت من أخيه جون وكانت زوجة مثالية عرف عنها حبها لزوجها ودعمها له وعدم الاعتراض على ساعات عمله، بل شجعته وهيأت له الأجواء، وقد رزقا بولد سمياه روبرت في العام1924، وأعطاه فلمنغ الكثير من الوقت فكان دوماً يلعب معه ويصطحبه، بينما عاشت زوجته مع نجاحاته وحضرت المناسبات الكثيرة التي منح فيها الجوائز والألقاب ومنها منحه لقب فارس في العام1944، فصار يعرف بـ (السير فلمنغ)، وقد توفيت زوجته عام 1949 وأسرّ فلمنغ إلى صديق له أن حياته تحطمت بعدها ( وبعد 34 عاما من الزواج) فاعتزل الناس، لكنه عاد فتزوج في العام 1953من طبيبة شابة يونانية الأصل تدعى أماليا فوريكا، كانت تعمل معه كمساعدة، ووقفت إلى جانبه بعد وفاة زوجته وأخرجته من كآبته، وتوفي فلمنغ في 11 آذار 1955 باحتشاء عضلته القلبية بشكل مفاجئ.
وقد عرف عنه جده وصبره الشديد في العمل، وعدم تذمره من التعب الذي يلاقيه، فكان يبتسم في معظم وقته، كما أنه كان لطيفاً ومحترماً من قبل العاملين معه لما كان يبديه من الاحترام لهم وعدم إيذاء أي منهم، بل كان يحاول مساعدة الجميع فتمتع بحبهم واحترامهم جميعاً.
رد مع اقتباس
المفضلات