الإمام أحمد بن حنبل
في عهد الإمام، تداول الفلاسفة كلاما يتعلق بالقرآن كلام الله تعالى لا تقبله الشريعة، و استمر الأمر لدرجة أن صدقه بعض الناس
فوقف الإمام أحمد مدافعا عن عقيدتنا في آي القرآن ... ووقف في وجهه أصحاب الرأي الآخر يحاربونه ...
و يطلبون منه تغيير كلامه و هو يرفض ... إنه حق واضح و قضية منتهية .
و بسبب رفضه و ثباته على الحق و العقيدة سجن، و كان يقول: " أنا لا أخاف فتنة السجن فما هو و بيتي إلا واحد ...
و لا أخاف فتنة القتل فإنما هي الشهادة ... إنما أخاف فتنة السوط " ..
فأخذوه ليجلدوه، فظهر على وجه الإمام أحمد الخوف و الجزع ... و عند خروجه إلى الساحة، لاحظ لص شهير في أيامه
اسمه ابو الهيثم الطيار هذا القلق على وجهه، فقال له : يا إمام ... لقد ضربت 18000 سوط بالتفاريق
( أي على امتداد عمري السرقي ) و أنا على الباطل فثبت، فاثبت أنت على الحق
ثم تابع كلامه قائلا : يا إمام،فإن عشت عشتَ حميدا، و إن مت متَ شهيدا ... فيقول الإمام أحمد : فثبتني.
و قد ظل الإمام كل ليلة يدعو لأبي هيثم الطيار : اللهم اغفر له ... فلما سأله ولده : يا أبت هو سارق، قال : و لكنه ثبتني ...
اثبت على الحق و سترى كيف سيعينك الله على الثبات ...
و يؤخذ الإمام و يضرب ... يقول الجلاد الذي ضربه : " لقد ضربته ضربا لو كان فيلا لهددته ! ...
و في كل مرة أتهيأ لضربه أقول في نفسي : السوط القادم سيخرج من فمه، من شدة ما تسلخ ظهره ! ...
و يمر عليه رجل و هو يضرب، فيقول له : هل آتيك بماء؟ فينظر إليه و يقول : أنا صائم !
انظر إلى هدا الثبات ... و بعض الناس ربما أصابه الهم القليل و الألم البسيط في خدمته للدين فيترك النوافل ... و يترك التلاوة .. ! ..
و يأتي للإمام أحمد رجل فيقول له : يا ابن حنبل، لقد ضعفتَ ... و أنت ذو عيال ( و يقصد : قل لهم بما يريدون لترتاح! ) ...
فيرد قائلا : إن كان هذا هو عقلك فقد استرحت ! ثم ينظر إلى الإمام و يقول : " انظر إلى الناس، يريدون مني كلمة،
و في زلة العالم ذل العالم " .
كيف استطاع أن يثبت؟ ... لقد عاش الإمام أحمد على الثبات و ألِِِِِفه ... و لقد قال أحد تلامذته عنه :
" لقد صحبت الإمام عشرين سنة، صيفا و شتاءا، حرا و بردا، ليلا و نهارا، فما لقيته في يوم إلا و هو زائد عليه بالأمس !
" ثبات عجيب على الحق و العمل له و التزود من ينابيعه ....
المجاهد عمر المختار
مثال آخر عن الثبات على الحق : المجاهد الشيخ عمر المختار، كان يجاهد و عمره 73 سنة ... أمضاها في معرفة
الحق و الثبات عليه ....
لن نتكلم عن حياته ... إنما سنأخذ لقطة منها ... دقائق معدودة ... و لكنها تأخذ الكثير عن ثبات هذا الرجل ...
و ذلك عندما قبض عليه من قبل الدولة الإيطالية ليحاكم ...
اللقطة تصور عمر المختار يستجوب من قبل ضابط إيطالي يسأله :
- هل حاربت الدولة الإيطالية؟
- نعم.
- و هل شجعت الناس على حربها؟
- نعم.
- و هل أنت مدرك عقوبة ما فعلت؟
- نعم.
- و هل تقر بما تقول؟
- نعم.
- منذ كم سنة و أنت تحارب السلطات الإيطالية؟
- منذ 10 سنين .
- هل أنت نادم على ما فعلت ؟
- لا .
- هل تدرك بأنك ستعدم ؟
- نعم.
- فيكلمه القاضي في المحكمة بقوله: أنا حزين بأن تكون هذه نهايتك !
فيرد عمر المختار بحزم و ثقة و طمأنينة : بل هذه أفضل طريقة أختم بها حياتي ! ...
و يحاول القاضي أن يغريه، فيحكم عليه بالعفو العام مقابل أن يكتب للمجاهدين في ليبيا أن يتوقفوا عن جهاد الإيطاليين
فبنظر إليه و يقول كلمته المشهورة :
"إن السبابة التي تشهد في كل صلاة أن لا إلاه إلا الله و أن محمدا رسول الله، لا يمكن أن تكتب كلمة باطل " ...
و مات ... مات شهيدا ... و لكنه بقي حيا في سجل الخالدين الثابتين على الحق ...
سعيد بن جبير
و النموذج الثالث للثبات على الحق : التابعي الجليل سعيد بن جبير ... و كان على عهد الحجاج بن يوسف الثقفي
الذي كان ظالما سفاحا، فوقف في وجهه سيدنا سعيد و تحداه و حارب ظلمه حتى قبض عليه ... فجيء به ليقتل ...
فسأله الحجاج مستهزئا: ما اسمك ؟ ( و هو يعلم اسمه ).
قال: سعيد بن جبير
قال الحجاج : بل أنت شقي بن كسير( يعكس اسمه ) ...
فيرد سعيد : أمي أعلم باسمي حين سمتني.
فقال الحجاج غاضبا : شقيت و شقيت أمك.
فقال سعيد : إنما يشقى من كان من أهل النار، فهل اطلعت على الغيب ؟
فيرد الحجاج : لأبدلنك بدنياك نارا تلظى !
فقال سعيد : و الله لو أعلم أن هذا بيدك لاتخذتك إلاها يعبد من دون الله !
فقال الحجاج : فلم فررت مني ؟
فقال سعيد : " ففررت منكم لما خفتكم " الشعراء
فقال الحجاج : اختر لنفسك قتلة يا سعيد ..
فقال سعيد : بل اختر لنفسك أنت ، فما قتلتني بقتلة إلا قتلك الله بها !
فيرد الحجاج : لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحدا قبلك ... و لن أقتلها لأحد بعدك!
فيقول سعيد : إذاً تفسد علي دنياي و أفسدت عليك آخرتك.
و لم يعد يحتمل الحجاج ثبات هذا الرجل العظيم ، فينادي بالحرس : جروه واقتلوه !
فيضحك سعيد و هو يمضي مع قاتله، فيناديه الحجاج مغتاظا : ما الذي يضحكك ؟
يقول سعيد : أضحك من جرأتك على الله ، و حلم الله عليك ! !
فاشتد غيض الحجاج و غضبه كثيرا، و نادى بحراسه : اذبحوه ! !
فقال سعيد : وجهوني إلى القبلة ... ثم وضعوا السيف على رقبته،
فقال : وجهة وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا مسلما و ما أنا من المشركين.
فقال الحجاج : غيروا وجهه عن القبلة !
فقال سعيد : " و لله المشرق و المغرب فأينما تولوا فثم وجه الله " البقرة.
فقال الحجاج : كبوه على وجهه ...
فقال سعيد : " منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى "
فنادى الحجاج : اذبحوه ! ما أسرع لسانك بالقرآن يا سعيد بن جبير ! ...
فقال سعيد : أشهد أن لا إلاه إلا الله، و أن محمدا رسول الله ... خذها مني يا حجاج حتى ألقاك بها يوم القيامة ...
ثم دعا قائلا: اللهم لا تسلطه على أحد بعدي .
و قتل سعيد ... و العجيب أنه بعد موته صار الحجاج يصرخ كل ليلة : ما لي و لسعيد بن جبير! كلما أردت النوم أخذ برجلي ! ...
و بعد 15 يوما مات الحجاج ... و لم يسلط على أحد من بعد سعيد رحمه الله.
كان إبراهيم أمة
هل ستثبت على الحق مهما كان ؟! هل تعرف الثبات أمثال هؤلاء الرجال ؟!
فلو كل الناس توانت و تخاذلت أنت ثابت...
و لو كل الناس غفلت عن الله أنت لا تغفل و لا تعصي...
ولو كل الناس ملت و مالت عن الحق أنت لا تحيد...
صحيح أن تقلب الدنيا تجعل ثباتنا صعبا بعض الشيء، كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عن زماننا :
" يأتي على الناس زمان، الصابر على دينه كالقابض على الجمر " الترمذي : 2260
و لكنه ليس مستحيلا ... النبي صلى الله عليه و سلم استطاع أن يغير في أنفس صحابته بعد أن كانوا أهل جاهلية و عصبية...
و الله تعالى يقول عن النفس البشرية: " قد أفلح من زكاها (9) و قد خاب من دساها "
يريد أن يشير إلينا بأن الأخلاق و الصفات يستطيع الإنسان أن يكتسبها... و أمراض النفوس مثل أمراض الأجساد،
و لها دواء طبعا، وفي مسند الإمام أحمد من حديث أسامة بن شريك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال : إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه وجهله من جهله ، وفي لفظ : إن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء
أو دواء ، إلا داء واحدا ، قالوا : يا رسول الله ما هو ؟ قال : الهرم قال الترمذي : هذا حديث صحيح .
فاثبت... و كن في ثباتك أمة ... كما كان سيدنا إبراهيم أمة...
أريد أن أؤكد على نقطة مهمة تتعلق بالثبات... حيث أن بعض الشباب يعتقد أن الثبات يعني دائما (خناقة) و مشاجرة...
لا ... المطلوب أن أكون ثابتا بمنتهى الثبات... ولكن أكلم الناس بمنتهى الرحمة و الود ... نعم لن أتوقف عن أن أدعو الناس
و آخذ بيد الناس... لأن هذا القلب في داخلي لن يبرد ... و سيظل نابضا بحب الإسلام ... و سأنقل هذا الحب
و هذا النبض إلى قلوب الناس... بالحكمة... و الموعظة الحسنة ... و الرحمة... و الرأفة... كما أمر الله نبيه الكريم ...
و هو المرسل رحمة للعالمين: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة " النحل.
لأنه أصلا دين الحب و الرحمة والخلق العالي القويم .
المفضلات