السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كيف ينسى العبدنفسه ؟
المعصية تنسي العبد نفسه
ومن عقوباتها : أنها تنسي العبد نفسه ، وإذا نسي نفسه
أهملها وأفسدها وأهلكها
فإن قيل : كيف ينسى العبد نفسه ؟
وإذا نسي نفسه فأي شيء يذكر ؟
وما معنى نسيانه نفسه ؟
قيل : نعم ينسى نفسه أعظم نسيان
قال تعالى : ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم
أولئك هم الفاسقون ) [ سورة الحشر : 19 ] .
فلما نسوا ربهم سبحانه نسيهم وأنساهم أنفسهم ،
كما قال تعالى : (نسوا الله فنسيهم )[ سورة التوبة : 67 ] .
فعاقب سبحانه من نسيه عقوبتين :
إحداهما : أنه سبحانه نسيه .
والثانية : أنه أنساه نفسه .
ونسيانه سبحانه للعبد : إهماله ، وتركه ، وتخليه عنه ، وإضاعته
فالهلاك أدنى إليه من اليد للفم ، وأما إنساؤه نفسه ، فهو :
إنساؤه لحظوظها العالية ، وأسباب سعادتها وفلاحها ، وإصلاحها
وما تكمل به بنسيه ذلك كله جميعه فلا يخطر بباله ، ولا يجعله
على ذكره ، ولا يصرف إليه همته فيرغب فيه ، فإنه لا يمر بباله
حتى يقصده ويؤثره .
وأيضا فينسيه عيوب نفسه ونقصها وآفاتها ، فلا يخطر
بباله إزالتها .
وأيضا فينسيه أمراض نفسه وقلبه وآلامها ، فلا يخطر بقلبه
مداواتها ، ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها التي تئول
بها إلى الفساد والهلاك ، فهو مريض مثخن بالمرض
ومرضه مترام به إلى التلف ، ولا يشعر بمرضه
ولا يخطر بباله مداواته ، وهذا من أعظم العقوبة العامة والخاصة .
فأي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نفسه وضيعها
ونسي مصالحها وداءها ودواءها ، وأسباب سعادتها وفلاحها
وصلاحها وحياتها الأبدية في النعيم المقيم ؟
ومن تأمل هذا الموضع تبين له أن أكثر هذا الخلق قد نسوا
حقيقة أنفسهم وضيعوها وأضاعوا حظها من الله ، وباعوها
رخيصة بثمن بخس بيع الغبن ، وإنما يظهر لهم هذا عند الموت
ويظهر هذا كل الظهور يوم التغابن ، يوم يظهر للعبد أنه
غبن في العقد الذي عقده لنفسه في هذه الدار ، والتجارة التي
اتجر فيها لمعاده ، فإن كل أحد يتجر في هذه الدنيا لآخرته .
فالخاسرون الذين يعتقدون أنهم أهل الربح والكسب اشتروا
الحياة الدنيا وحظهم فيها ولذاتهم ، بالآخرة وحظهم فيها
فأذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ، واستمتعوا بها ، ورضوا
بها ، واطمأنوا إليها ، وكان سعيهم لتحصيلها ، فباعوا واشتروا
واتجروا وباعوا آجلا بعاجل ، ونسيئة بنقد ، وغائبا بناجز
وقالوا : هذا هو الحزم ، ويقول أحدهم :
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به
فكيف أبيع حاضرا نقدا مشاهدا في هذه الدار بغائب نسيئة
في دار أخرى غير هذه ؟
وينضم إلى ذلك ضعف الإيمان وقوة داعي الشهوة
ومحبة العاجلة والتشبه ببني الجنس
فأكثر الخلق في هذه التجارة الخاسرة التي قال الله في أهلها :
(أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف
عنهم العذاب ولا هم ينصرون) [ سورة البقرة : 86 ]
وقال فيهم (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين )
[ سورة البقرة : 16 ] ، فإذا كان يوم التغابن ظهر لهم الغبن
في هذه التجارة ، فتتقطع عليهم النفوس حسرات .
وأما الرابحون فإنهم باعوا فانيا بباق ، وخسيسا بنفيس
وحقيرا بعظيم ، وقالوا : ما مقدار هذه الدنيا من أولها
إلى آخرها ، حتى نبيع حظنا من الله تعالى والدار الآخرة بها ؟
فكيف ينال العبد منها في هذا الزمن القصير الذي هو في
الحقيقة كغفوة حلم : قال تعالى
( ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم )
[ سورة يونس : 45 ] .
فهذه حقيقة الدنيا عند موافاة يوم القيامة ، فلما علموا قلة
لبثهم فيها ، وأن لهم دارا غير هذه الدار ، هي دار الحيوان
ودار البقاء - رأوا من أعظم الغبن بيع دار البقاء بدار الفناء
فاتجروا تجارة الأكياس ، ولم يغتروا بتجارة السفهاء من
الناس ، فظهر لهم يوم التغابن ربح تجارتهم ومقدار ما اشتروه
وكل أحد في هذه الدنيا بائع مشتر متجر ، و كل الناس يغدو
فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها .
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا
في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله
( فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)
[ سورة التوبة : 111 ] .
فهذا أول نقد من ثمن هذه التجارة ، فتاجروا أيها المفلسون
ويا من لا يقدر على هذا الثمن ، هنا ثمن آخر ، فإن كنت
من أهل هذه التجارة فأعط هذا الثمن
( ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب
أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم
وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)
[ سورة الصف : 10 - 11 ] .
والمقصود أن الذنوب تنسي العبد حظه من هذه التجارة الرابحة
وتشغله بالتجارة الخاسرة ، وكفى بذلك عقوبة ، والله المستعان .
المفضلات