احباب الاردن التعليمي

صفحة 2 من 7 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 69

الموضوع: مقامات عائض القرني

  1. #11
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــــة الـيوســفـيّـــة


     لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ 

    كأن الثريا علقت بجبينه

    وفي جيده الشعرى وفي وجهه القمر

    ولو نظرت شمس الضحى في خدوده

    لقالت معاذ الله ما يوسف بشر

    كنا نجلس كل يوم ، مع قوم ، ينتقون من الحديث درره ، ويذكرون لنا العالم بحره وبرّه . فدَلِف علينا يوماً من الأيام ، شيخ ممشوق المقام ، كثير الابتسام ، فصيح الكلام ، فنظر في وجوهنا وتوسّم ، ثم تبسّم وسلّم ، ثم جلس واتكى ، وتأوّه وشكى .
    قلنا: ما الخبر ، أيها الشيخ الأغر ؟ قال : تذكرت من غبر ، أهل الأخبار والسير ، فعلمت أننا بالأثر ، قلنا : ما الاسم ، فقد أعجبنا الرسم .
    قال : أنا عبيد الله بن حسان ، من أهل ميسان ، قلنا : كلامك محبوب ، فقص علينا قصة يوسف بن يعقوب ، فقال : مهما اهتم العالم بالحفظ وحرص ، لكن الذهن فتر والخاطر نكص . وكفى بقصص الله وهو يقول :  نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ  ، لكن سوف أخبركم بوقفات ، والعفو عما نسيناه وفات .
    • لما نصح يعقوب يوسف أن لا يقص ما رأى ، لأنه يخشى عليه ما جرى ، فإنه ما خلا جسد من حسد ، وكم من قلب بنعم الغير فسد ، فيا أيها العبد استر جمال يوسف النعم ، خوفاً من أن تلقى في غيابة جب النقم ، فيسلط عليك ذئب البغضاء ، لا ذئب الصحراء :
    عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى


    وصوّت إنسان فكدت أطير

    • لا تعتذر للمخالف ، فيأخذ العذر منك وأنت واقف ، أما ترى يعقوب ، يوم خاف على ابنه الخطوب ، قال : أخاف أن يأكل الذئب يوسف ، فقالوا : أكله الذئب فلا تأسف ، فكأنهّ هيأ لهم الحجة ، حينما ضلوا في المحجّة .
    • وجاؤا على قميصه بدم كذب ، لأن الذئب ما خلع الثوب ، بل شقه وسحب ، والذئب لا يفتح الأزرار ، بل يمزقها بلا وقار :
    يا ممعنا في السوء والعيب
    لا ينفع التهذيب في الذيب

    • لو علمت القافلة بمكانة يوسف : ما قالوا : يا بشرى هذا غلام ، بل لقالوا : يا بشرى هذا إمام ، وولي مقدام ، وسيد همام ، ولكن وما أدرى الليل ببدر التمام
    • يوسف لديه جمال وجلال ، فردعه وازع الجلال ، عن نوازع الجمال ، لما قال : معاذ الله ، حماه ربه وتولاه .
    • لو ترك يوسف كلمة اذكرني عند ربك وذكر هو ربَّه ، لكشف كربه ، وأزال خطبه ، وأسعد قلبه .
    • يوسف ما نسي إيمانه ، سُئل عن الرؤى وهو في الزنزانة ، فدعا إلى التوحيد ، لأن التوحيد حياة العبيد ، لا يرده قيد ولا يمنعه حديد .
    قد قلت للذئب الوفي لصحبهِ
    أأكلت يوسف في العراء بخلسة
    فأجابني والله لم أهمم به
    إني أحب الأنبياء ومهجـتي
    يا صاحب الأظفار والأنيابِ
    ودم النبوة سال في الأثوابِ
    هذا معاذ الله غير صوابِ
    تفدي النبي ومقلتي وإهابي

    • الذئاب ما تأكل الأنبياء ، ولا تلطخ أفواهها بدماء الأولياء ، لأنهم أصفياء أوفياء وإنما يقتل الأنبياء ذئاب الخليقة ، إذا عميت عليهم الحقيقة ، وأظلمت عليهم الطريقة:
    الذئب أكرم عشرة من ثلة
    خانوا عهود مودة الإخوان

    • في سورة يوسف قميص بريء من الذئب ، وقميص بريء من العيب ، وقميص مضمخ بالطيب .
    فالأول : قميص يوسف وقد مزّقه الإخوان ، والثاني : قميصه وقد مزّقته امرأة السلطان ، والثالث : قميصه وقد ألقي على يعقوب فأبصرت العينان :
    كأن كل نداء في مسامعه

    قميص يوسف في أجفان يعقوب

    • لما قال إخوة يوسف له :  وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ  ، نسوا أنهم هم الذين أوقعوه في هم كثير ، فهو بسبب ما فعلوه في حزنه أسير ، وفي بيته كسير ، فهم يحتجون به وقت الحاجة ، وينسونه وقت اللجاجة .
    • لما قال يعقوب : لا تدخلوا من باب واحد ، لأنه خاف الحاسد ، فهو في مكان النعيم قاعد ، فإذا أقبلوا في حملة ، قتلهم جملة ، فَعمِّ على الحسود الأمر ، لتضع في عينيه الجمر .
    • الدنيا وجهها نحس ، يباع يوسف بثمن بخس ، وحزن يعقوب يكاد يذهب بالنفس ، والفراعنة بملكهم يفرحون ، وفي دنياهم يمرحون ، وفي نعيمهم يسرحون لكن انظر إلى العواقب ، عندما تكشف عن الأولياء النوائب ، وتزول عنهم المصائب . فإذا الفرحة الغامرة ، والحياة العامرة ، و النعيم في الآخرة .
    أما الفجار ، فسحابة نهار ، وراحة حمار ، ثم نكال في أسوء دار .
    • هَمَّ يوسفُ هَمّة ، فتذكر علو الهمة ، وإمامة الأمّة ، ففر إلى الباب ، يطلب الطريق إلى الوهاب ، بعد ما هيئت له الأسباب ، لأن يوسف من سلالة الأطياب ، فتاب وأناب .
    • يوسف شاب ، من العزاب ، تعرّضت له امرأة ذات منصب وجمال ، وحسن ودلال ، فغلقت الأبواب ، ورفلت في أبهى الثياب ، فتذكر يوم القيامة ، وساعة الندامة ، فقال : أواه معاذ الله ، فمنعه الله وكفاه ، وأنت تتعرض للنساء صباح مساء ، غرك الوجه المبرقع ، والحسن المرقع ، ولا تحذر وتتوقّع .
    هب أن نظرتك التي أرسلتها
    نظر المهيمن فيك أسرع موقعاً
    عادت إليك مع الهوى بغزالي
    فخف العظيم الواحد المتعالي

    • في قلب يوسف من الوحي نصوص ، وفي قلبك من المعصية لصوص ، في شرايين يوسف دماء الإمامة والدين ، وفي شرايينك شهوة الماء والطين .
    • يوسف تخرج من جامعة  وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى  ، وأنت تخرجت من جامعة : يشكو العيون السود قلبي والهوى .
    لشتان ما بين اليزيدين في الندى
    يزيد بن عمرو والأغر بن حاتمِ

    • يوسف تربيته على شريعة ، وأخلاق رفيعة ، وبعضهم يربى على مجلات خليعة ، وآداب شنيعة .
    • وا أسفي على منهج يوسف ، في هذا الواقع المؤسف ، صورة عارية ، وكأس وجارية ، وشهوات سارية ، كلها تقول : هيت لك ، وليس عند الجيل صرخة
    معاذ الله .
    • الآن حصحص الحق ، وبان الفرق ، فيا شباب الصدق ، قولوا في أحسن نطق : معاذ الله . من أراد السناء ، والثناء ، والعلياء ، وأن يحمي نفسه من الفحشاء ، والفعلة الشنعاء ، فليحفظ متن الأولياء : معاذ الله .
    من عاذ بالله أعاذه ، وأكرم ملاذه .

  2. #12
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــــة الـسـليمـانيـــة



     رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ 

    حتى سليمان ما تم الخلود له
    دانت له الأرض والأجناد تحرسه
    والريح تخدمه والبدو والحضر
    فزاره الموت لا عين ولا أثر

    ما مر من قديم الزمان ، ملك كملك سليمان ، فقد علم منطق الطير بلا ترجمان ، وقد اجتمعت في غيبته الحيوانات والطيور ، في يوم فرح وسرور ، وهناء وحبور ، فقالت البهائم للأسد : أيها الأمير ، اجلس على السرير ، فإنك أبونا الكبير ، فتربع جالساً ، ثم سكت عابساً ، فخاف الجميع ، وأصبحوا في موقف فظيع ، فقام الحمار ، أبو المغوار ، فقال : يا حيدرة ، سكوتك ما أنكره ، فقال الأسد : يا حمار البلد ، يا رمز الجلد ، سكتُ لأن الثعلب غاب ، وقسماً لو حضر لأغرزن في رأسه الناب ، فقام الذيب يتكلم وهو خطيب مصيب ، فقال للأسد : يا أبا أسامة ، إن الثعلب قليل الكرامة ، عديم الشهامة ، فليتك تورده الندامة ، فهو لا يستحق السلامة ، وكان أحد التيوس مع الجلوس ، فانسل إلى الثعلب فوجده يلعب فقال : انتبه أيها الصديق ، فالكمين في الطريق، إن الأسد يتوعدك بالذبح ، فاجتهد معه في الصلح ، فقال الثعلب : فمن الذي دهاني عنده ، وغير علي وده ، قال التيس : هو عدوك وعدوي ، الذي في وادٍ يدوي ، هو الذيب الغادر ، صاحب الخيانة الفاجر ، قال الثعلب : أنا الداهية الدهياء ، لأنثرن لحمه في العراء ، أما سمعت الشاعر أحمد ، إذ يقول في شعر مسدد :
    الرأي قبل شجاعة الشجعان

    هو أول وهي المحل الثاني


    فلما حضر الثعلب إلى الأسد ، ودخل مجلسه وقعد ، قال أبو أسامة ، والثعلب أمامه : ما لكَ تأخرت يا بليد ، تالله إن الموت أقرب إليك من حبل الوريد .
    قال الثعلب : مهلا أبا أسامة ، أبقاك الله للزعامة ، سمعت أنك مريض ، فذهبت إلى البلد العريض ، ألتمس لك دواء ، جعله الله لك شفاء ، قال : أحسنت ، وسهلت عليّ الأمر وهونت ، فماذا وجدت ، قال : وجدت أن علاجك في كبد الذيب مع حفنة من زبيب ، فقال الأسد للذيب ، أمرك عجيب ، وشأنك غريب ، علاجي لديك ، وقد سبق أن شكوت عليك ، فلما دنا الذيب واقترب ، سحبه الأسد فانسحب ، فخلع رأسه ، وقطع أنفاسه ، ثم سلخ لبده ، وأخرج كبده ، فصاح الغراب ، وهو فوق بعض الأخشاب ، يا أبا أسامة ، ما تترك الظلم والغشامة ، فرد عليه الأسد ، اسكت سَدّ الله فاك ، أنسيت أنك قتلت أخاك ، ودفنته في تراب ، ما أقبحك من غراب .
    قال الغراب : يا ظلوم يا غشوم يا مشؤوم . أنا الذي دل على بلقيس يا خسيس ، وجيت سليمان ملك الإنس والجان ، بنبأ من سبأ ، وحملت الرسالة في بسالة ، ودعوت للتوحيد ، وهو حق الله على العبيد ، فبلقيس أسلمت بسببي ، وحسبي معروف ونسبي ، ثم أنشد الغراب :
    ولقد حملت رسالة مختومة

    يهدي سليمان بها بلقيسا

    فوضعتها في حجرها متلطفا

    كانت تقدس شمسها تقديسا

    فأعرض أبو أسامة ، وقطع كلامه ، وإذا بحية لها فحيح ، أقبلت تصيح ، قد ذبل شعر رأسها وشاب ، وما بقي لها إلا ناب ، فقال الأسد : من بالباب .
    قالت الحية : أنا أم الجلباب ، فقال : ما اسمك يا حية ، وما معك من قضية ، قالت : اسمي لس ، وخبري على ظاهر فقس ، أنا كنت اسكن ، في قرية من قرى فلسطين ، رأسي في الماء ، وذنبي في الطين ، فعصى أهل القرية خالقهم ، وكفروا رازقهم ، فساقني إليهم ، وسلطني عليهم ، فقذفت في بيرهم من سمي زعافا ، فماتوا آلافاً ، وهلكوا أصنافاً ، وردم الله عليهم القرية ، لأنهم أهل فرية .
    فلما ملك سليمان ، اختفت القرية عن العيان ، فأراد أن يرى القرية رأي العين ، فاستدعى الرياح في ذلك الحين ، فقال للريح الشمالية ، هبي قوية ، وأخرجي لنا تلك البئر المطوية ، والقرية المنسية ، قالت : يا نبي الله أنا أضعف من ذلك بكثير ، أنا خلقني ربي لتلقيح الثمار ، بقدرة القدير ، فقال للغربية : أنت لازلت فتية ، فهبي على هذه الدار ، لنرى ما تحتها من الآثار ، قالت : يا نبي الله ، أنا خلقني ربي لتلطيف الهواء ، وتبريد الماء ، ولكن عليك بالدبور ، فإنها التي أهلكت كل كفور .
    فقال سليمان : أيها الدبور ، بأسك مشهور ، وبطشك مذكور ، فأخرجي لنا القرية المنكوبة ، لنرى كل أعجوبة ، فهبت ولها هرير ، وزلزلة وصرير ، فاقتلعت التراب والحجر ، ونسفت الشجر ، حتى خرجت القرية واضحة المعالم ، كل شيء فيها قائم ، فوجد الحية في البئر ، بناب واحد صغير ، فسمى القرية باسم البئر وناب الحية ، فصار اسمها نابلس كما في السيرة المرويّة .
    فقال الأسد للحمامة ، يا أم يمامة ، حدثينا عن ملك سليمان ، فلن يملك أحد مثله إلى يوم القيامة ، قالت : حباً وكرامة ، يا أيها الهزبر ، ليس الخَبَر كالـخُبْر ، اعلم أنه ما أصبح يفرح بالملك بعد سليمان ، لما أعطاه الله من الملك والسلطان ، ملك الإنس والجان والطير والحيوان ، وكلم الوحوش بلا ترجمان ، بنيت له القصور من القوارير ، ونحتت له من الجبال المقاصير ، وخزنت له في البحر القناطير ، وسخر الله له الرياح ، تحمله كل صباح ، فملكه فوق ما يصفه الواصفون ، ولا يعلم ذلك إلا العارفون :
    ما عاد يفرح بالولاية بعده




    أبدا ولا يهني بعيش ناعم

    دنيا متى ما أضحكت في يومها

    أبكت غداً من قاتل أو هادم

    ثم مرت النملة تقفز قفزا ، وتهمز همزا ، وهي تقول : أما علمتم بخبري المنقول ، أنا التي كلمها سليمان ، وأعطاها الأمان ، وسجلت قصتي في القرآن ، أما قلت للنمل ، ادخلوا مساكنكم ، واحفظوا أماكنكم ، ثم أنشدت :
    لا تحقرنَّ صغير الجسم تحسبه
    لكنها همم تسمو بصاحبها


    بالجسم يبلغ آفاقا وأمجادا
    وهمتي ذكرت بي الدهر أحفادا



    ثم مر الكلب ، رمز السلب والنهب ، قال : يا جماعة ، اسمعوا مني ساعة ، فأنا مقصود بالمدح والهجاء ، وما زالت الأشراف تهجو وتمدح كما ذكر صاحب الإنشاء ، فأنا أصيد الصيد ، وأقيده بقيد ، وحفظي للبيت سديد ، وبأسي لصاحبي شديد ، لكنني دائما بخس محدث ، كما ورد إن تحمل عليه يلهث ، فلي إصابات وغلطات ، والحسنات يذهبن السيئات ، فلا تظنوا أني آية في الخساسة ، ومضرب المثل في النجاسة ، بل انجس مني ، وهذه فائدة خذها عني ، من ترك العمل ، بلا علم ، وأعرض عن التقوى بعد الفهم ، وأسرف في الظلم . ثم انفض المجلس وقد امتلأت بالأنس الأنفس .
    واعلم أيها الملهم أن سليمان أعظم من ملك من بني الإنسان ، وأقصر رسالة في الحديث والقديم :  إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 

  3. #13
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــــة الـحُسَــينـيّـــة



     رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ 
    مرحباً يا عراق جئت أغنيـ
    فجراح الحسين بعض جراحي
    ـك وبعض من الغناء بكاء
    وبصدري من الأسى كربلاء

    أنا سُنيّ حسينيّ ، جعلت ترحمي عليه مكان أنيني ، أنا أحب السبطين ، لكني أقدم الشيخين ، ليس من لوازم حب الشمس أن تكره القمر ، وموالاة الحسن والحسين يقتضي موالاة أبي بكر وعمر ، لأنه يحبهم ويحبونه ، ويحترمهم ويحترمونه .
    قاتل الله عبيد الله ابن زياد ، يحرّج على رؤوس العظماء في سوق المزاد .
    الحسين لا يمجد بضريح ، ولا بالإسراف في المديح . لكننا نصدق في حبه ، إذا اتبعنا جَدَّه ، وحملنا وُدَّه ، وليس بأن نعكف عنده .
    بعض الناس ذبابة ، يجفو القرابة ، ويسب الصحابة .
    عظماؤنا ما بين مقتول ومذبوح ، ومسجون ومبطوح ، ومضروب ومجروح .
    وما مات منّا سيّد حتف أنفه

    ولكن بحد السيف في الروع نقتلُ

    يا صاحب الفطن ، تريد أن تدخل الجنة بلا ثمن ، يا من يريدون الغروس والعروس، ابذلوا النفوس ، وقدموا الرؤوس .
    تريد شراء الجنة بصاع من شعير ، وهو لا يكفي علوفاً للعير ، ولا فطوراً للبعير ، إذا ناداك المسكين ، كأنه طعنك بسكين ، وأنت تتمنى على الله الأماني ، وتشتاق لمثل تلك المغاني . أنت من سنين ، تبكي على الحسين ، من يحب الحسين بن علي ، فليطع الولي ، هذا هو الحب الجلي .
    أنت مثل شيخ فزاره ، حينما قطع أزراره ، قالوا مالك ، قال : أفدي بها أخي
    أبا عمارة .
    جاؤا برأسك يا ابن بنت محمد
    ويكبرون بأن قتلت وإنما
    تركوك في الصحراء ثم كأنما
    متـزمـلاً بدمائه تزميلا
    قتلـوا بك التكبير والتهليلا
    قتلوا بقتلك عامدين رسولا

    أنا أعلن صرخة الاحتجاج ، ضد ابن زياد والحجاج ، يا أرض الظالمين ابلعي ماءك، ويا ميادين السفاحين اشربي دماءك .
    آه ما أطوله من يوم للقتله ، إذا جاء المقتول ومن قتله ، في يوم لا يكون الحاكم فيه إلا الواحد ، ولا المُلْك إلا للماجد ، وقد خاب فيه الجاحد المعاند .
    الحسين شهيد ، على رغم أنف العنيد ، ما قتل وما نهب ، وما ظلم وما سلب .
    وقد أخطأ ابن خلدون حينما نقل أن الحسين قتل بسيف الشريعة ، وهذا النقل من الأمور الشنيعة ، بل قال شيخ الإسلام ، علم الأعلام : قتل الحسين بسيف الظلم والعدوان ، وقتله مصيبة يؤجر عليها من استرجع من أهل الإيمان : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وإنا لرسوله عند المصائب لتابعون .
    ألا إن عينا لم تجد يوم واسط
    عليك بغالي دمعها لجمود

    إن كان قَتْل الحسين من العدل ، فقد ألغى مدلول النقل والعقل ، وما عاد في الدنيا ظلم ، وما بقي في الأرض إثم ، وإذا احتاج إثبات النهار إلى كلام ، فقل على
    الدنيا السلام .
    وليس يصح في الأذهان شيء
    إذا احتاج النهار إلى دليل

    في كربلاء ، كرب وبلاء ، على ثراها قلب ذكي ، ودم زكي .
    كأن قتلك يا ابن الطيبين لنا
    كأنما دفنوا الإسلام في كفن
    سيف من البغي في الأعناق مشهورُ
    من المصاحفِ حاكته المقَاديرُ

    الحسين ليس بحاجة إلى مآتم ، وولائم ، تزيد الأمة هزائم إلى هزائم .
    الحسين على نهج جده محمد ، وعلى مذهب أبيه المسدد ، تقوى تمنع من الانحراف ، وعَدْل يحمل على الإنصاف . ولو أن الحسين صاحب دنيا ، لما بكينا ، ولو أنه طالب جاه ما اشتكينا ، لكنّه من البيت الطاهر ، صاحب النسب الباهر ، أمانته رصينة ،
    وأخلاقه حصينة .
    عفاء على دنيا رحلت لغيرها
    كدأب عليٍّ في المواطن كلها
    فليس بها للصالحين معرّج
    أبي حسنٍ والغصن من حيث يخرج

    صح الخبر في السنة ، أن الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة ، فإذا قتل السيد كيف حال المسود ، وضحية الحاسد هو المحسود ، وقال جدهما المعصوم : هما ريحانتاي من الدنيا ، فهم بهذه التزكية في الدرجة العليا ، والريحانة تشم ولا تقطع ، وتمسح ولا تقلع ، جاءوا بالرأس إلى ابن زياد في العراق ، والدم مهراق ، ثم لم تبك للظلمة عيون ، ولم تتحرك شجون ، وهذا برهان على أن قلوب الظلمة كالحجارة ، وأن نفوسهم ملأت بالمرارة .
    إذا لم تبك من هذي الرزايا
    فمت كمداً فما في العيش خير
    ولم تفجَعْك قاضية القضايا
    إذا جمع البرايا كالمطايا

    لما أغمد سيف الجهاد ، سله ابن زياد ، على العلماء والعباد . لو كانت الأمة شاركت في قتل الحسين لكانت ظالمة ، ولو رضيت بذلك لأصبحت آثمة ، وقعت الأمة بين فكي زياد ويزيد ، يدوسون الجماجم ويقولون : هل من مزيد ، وتصفق له أراذل العبيد . ليل الحسين صلاة وخشوع وبكاء ، وليلهم رقص وطرب وغناء ، نهار الحسين تلاوة وذكر وصيام ، ونهارهم لهو وعشق وغرام . ولهذا وقع الخلاف وعدم الإنصاف .
    إذا عَيّر الطائـيَّ بالبخـل ما درٌ
    وقال الدجى للشمس أنت كسيفة
    فيا موت زُرْ إن الحياة ذميمة
    وعيَّر قِسّـاً بالفهاهــة باقـلُ
    وقال السهى للبدر وجهك حائلُ
    ويا نفس جدي إن دهرك هازلُ

    يا أهل العقول ، إن قتل سبط الرسول ، وابن البتول ، أمر مهول ، فلا تخبروا أعداء الملة ، بهذه الزلة ، فإنها للأمة ذلة . الحسين ليس بحاجة إلى وضع أشعار ، ولكن إلى رفع شعار ، دعنا من ترديد القصيد ، والتباكي بالنشيد ، ولكن تابع الحسين في تجريد التوحيد ، وتوقير الشيخين أهل الرأي الرشيد .
    العظماء يقتلون بالسيف أعزاء ، والظلمة يموتون على فرشهم أذلاء جبناء ،
    فالعظيم قتل بتذكية شرعية ، والجبان مات ميتة بدعية .  حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ  .
    تأخرتُ أستبقي الحياة فلم أجد
    وليس على الأعقاب تدمى كلومنا
    لنفسي حياة مثل أن أتقدما
    ولكن على أقدامنا تقطر الدما

    فاتت الحسين الشهادة في بدر لأنه صغير ، فعوضه الله بها في صحراء العراق وهو كبير ، الرجل يريد أن يكتب اسمه بدم ، وهو يحب البيع لا السَّلم ، ومن يشابه أبه فما ظلم . الذين ينوحون على الحسين ويقولون قتل وهو مظلوم ، قلنا هذا أمر معلوم ، ولكن كفاكم بالنياحة جهلا . فهل كان قتل عمر وعثمان وعلي عدلا ، النياحة في الدين غير مباحة ، لأنها مخالفة للمأمور ، وفعل للمحظور ، وتسخط بالمقدور ، لو لم يقتل الحسين لمات . أفتنوحون عليه وقد كسب عز الحياة . وسعادة الوفاة .
    علوٌّ في الحياة وفي الممات
    بحقٍ أنت إحدى المعجزات

    من أحب الحسين فليفعل فعله في حفظ الدين ، وكراهية الظالمين ، وحب المساكين
    قتل الحسين دليل على عظمة الإسلام ، لأن مهره رؤوس تقطع ، وأرواح تدفع ، وضريبته دم يسيل ، ورأس في سبيل الله يميل ، الإسلام كالأسد همته ليست سخيفة ، ولذلك لا يأكل الجيفة ، لعظمة الشمس أصابها الخسوف ، ولجلالة القمر رمي بالكسوف ، والعظماء غرض للحتوف :
    قل للذي بصروف الدهر عيّرنا
    أما ترى البحر تعلو فوقه جيف
    وفي السماء نجوم لا عداد لها
    هل حارب الدهرُ إلا من له خطرُ
    وتستقر بأقصى قعره دررُ
    وليس يكسف إلا الشمس والقمر

    رحم الله السبطين ، الحسن والحسين ، وعليا وفاطمة أكرموا الدين .
    والصلاة والسلام على خاتم المرسلين ، وآله وصحبه أجمعين .

  4. #14
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــة الـتيميّـــة
     وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ 
    علامة العلماء والبحر الذي
    افخر فإن الناس فيك ثلاثة
    لا ينتهي ولكل لج ساحلُ
    مستعظم أو حاسد أو جاهلُ

    قال الراوي نراك متيّم بابن تيميّة ، تذكره باليوميّة، ولك إليه ميل وحميّة ، فقال : ليس عروس إلا بمهر ، وحديثنا عن ابن تيميّة غدوّه شهر ورواحه شهر ، وحسبك أنه عالم الدهر ، ألّف الواسطيّة فذبت في حبها ، ودبّج الحمويّة فتذوّقت من لبِّها ، وجمع التدمريّة تدمّر كل شيء بأمر ربها ، آه يا أحمد ابن تيمية ، يا من اهتدى بسميِّه ، فنصر السنة وهزم الجهميّة ، بذل للطالبين بحره ، وعرّض للسيوف نحره ، ابن تيميه بطل ، هزّ الدول ، وأتْبع القول العمل .
    رأيـته فرأيت الناس في رجـلٍ
    حروفه كشعاع الشمس لو قطرت
    كالفجر في شرفٍ والدر في صدفِ
    ألفاظـه قلت هذا الزهـر في ترفِ

    ابن تيمية للشريعة ابنٌ بارّ ، هجر الدرهم والدينار ، وهو لأعداء الملة سيف بتّار ، جنته في صدره ، لأنه وحيد عصره ، وفريد دهره ، وقتله شهادة ، لأنه مجتهد في العبادة ، كثير الإفادة ، أرهب عبدة الأصنام ، وأذل خصوم الإسلام ، وسلّ على كل ملحد الحسام، كلامه شهب ، وردوده لهب ، وألفاظه ذهب .
    له موقف يحمي به الدين ذكره

    تشيد به الركبـان في البـدوِ الحـضرِ

    أقام عمود الدين بالنور والهدى

    وسلّ حساماً فاتك الوقع بالكفرِ

    تعطّل به سوق الباطل وكسد ، وخافه كل من عصى وفسد ، لأن قلبه قلب أسد .
    الرجل موحد متعبد متهجد متفرد مجدد، زاهد عابد ساجد ماجد حامد رائد مجاهد، كم أزال من بدع ، وأظهر من ورع ، وكم من ملحد قمع ، سيفه على الضلال مسنون، وقلبه عن حب الدنيا مسجون ، وهو صاحب فنون ومتون وشجون .
    سارت في الآفاق أخباره ، طارت في البقاع أشعاره ، كثر في الحق أنصاره، هو مدرسة الاعتدال ، وجامعة الاستقلال، ورمز النضال ، لا يهاب ولا يرتاب ولا يغتاب ،
    لله درك ما تركت رسالـة
    أنفقت عمرك للمعالي مثلما
    يوم الوغى ويداك في الكُـلاّبِ
    أنفقـت هـذا العـلم للطُـلاّبِ

    ابن تيميه فريد ، لا يخضع للتقليد ، وما هو ببليد ، ولكنه عبقري رشيد .
    لكلامه حلاوة ، وعلى كتبه طلاوة ، نصر المعصوم ، وأفحم الخصوم ، الرجل رجل كفاح ، وإمام إصلاح ، مناضل يحب المناضلين ، ويحارب المغضوب عليهم والضالين ، همة وثّابة ، وذاكرة خلاّبة ، ولسان جذّابة، هو إمام التحرير والتحبير والتنوير، ليس بجامد ولا جاحد ، ولكنه علامة صامد ، مجاهد ، عابد . أخذ بالعزائم وتوّرع في الرّخص ، وتجرع من أجل الإسلام الغصص :
    إن كان يرضيك أن تهوي جماجمنا
    ما تخجل الشمـس إلا من مواقفـنا
    على التراب فهذا الفعل يرضينا
    ولا تـهاب العدى إلا مواضينا

    هذا الإمام كأنه بكل فضل مخصوص ، أعاد الأمة للنصوص ، وأراحنا من ضلال صاحب الفصوص . مرة يهيل التراب على القدريّة ، وأخرى يلقي الموت على النصيرية، سجن الاعتزال ، في زنزانة الإهمال ، خرج على التتار بالنار ، وحضر ذاك العراك ، فأذاق هولاكو الهلاك ، الرجل منصور ، وخصمه مقهور .
    ترك المطاعم الشهيّة ، والمراكب الوطيّة ، والمناظر البهيّة ، له مع القرآن سمر ، ومع الذكر سهر ، وله جلسةٌ في السحر :
    قلت يا ليل هل بجوفك سرُّ
    قال لم ألق في حياتي حديثاً
    عامـر بالحـديث والأسرارِ
    كحديث الأحباب في الأسحارِ

    صرامة في الحق ، وإصرار على الصدق ، وعلم في رفق .
    زهـد : فكأن الذهب تراب ، والجواهر أخشاب ، والدنيا خراب .
    شجاعة : فكأن الموت عطية ، والهلاك مطيّة ، والمنيّة هديّة.
    علـم : فكأن البحر زخر ، والمحيط انفجر ، والغيث انهمر.
    تواضع : فهو أرق من النسيم ، رحيم بالمسكين واليتيم ، هذا الإمام جاد وليس بهازل ، وعن مبدئه لا يتنازل، ولهذا سكن أعلى المنازل .
    أخلاق طاهرة ، وسنة عليه ظاهرة ، وهمة بين جنبيه باهرة :
    له همة لو أن للشمس عشرها
    فيوماً مع الذكر الحكيم بمسجد
    لما غربت حتى يجيء لهـا الغربُ
    ويوماً نديم للقـنا والوغـى حربُ

    ما هذا العمق والتأصيل ، واتباع الدليل ، وغزارة التحصيل ، لو أن ابن تيمية مبتدع ما فهمناه ، ولو انصرف للدنيا لاتهمناه ، لكن الرجل صاحب سنة ، يريد الجنة ، له
    عقل صحيح ، ولسان فصيح ، يفلج الخصوم بالحجة ، ويدل الناس على المحجة ، نعم الله عليه تامّة ، وهو في العلوم هامّة، ثم هو رجل عامّة، علامة الصدق في العالِم ، العزوف عن الدنايا ، وعدم الخوف من المنايا ، وجمع السجايا ، وكذلك كان ابن تيمية .
    ودليل فلاح العالِم ، لزوم أحسن طريقة ، والغوص على الحقيقة ، وحب الخليقة ، وكذلك كان ابن تيمية .
    وبرهان رفعة العالِم ، خشية الملك العلاّم ، وزُهد في الحطام ، ورِفق بالأنام ، وتعليم للعوام ، وكذلك كان ابن تيمية .
    فتـى قد حباه الله بالحسن يافعاً
    ولما رأى المجد استعار ثيـابه
    كأن عليـه من نجابتـه سـورْ
    تردّى رداءً واسع الجيب واتزرْ

    ابن تيمية تفنن في العلوم ، ودفع الخصوم ، ولم يتعلق بالرسوم .
    ليس العلم عند ابن تيمية جبّة مدوّرة ، ولا عمامة مكوّرة ، ولا هيئة مصوّرة، بل العلم تقى عميق ، ودليل بتحقيق ، وفهم دقيق . وليست المنزلة عند ابن تيمية مراتب ومناصب وتكالب ، بل تضحية وجهاد ، ونفع للعباد ، وإصلاح للبلاد . سفينة علمه لعباب الجهل ماخرة ، فآتاه الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .
    معالم علم الرجل : فهم للسور ، واتباع للأثر ، وجمع للدرر ، وإيمان بالقدر ، وجهاد لمن كفر ، جعله الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
    ليس بقليل علم فهو يغرف من معين ، ولم يتزوج فهو خاطب الحور العين ، بطح البطائحية ، وجعل المعطلة ضحية ، مزق الزنادقة ، وأغرق بالحجج كل فرقة مارقة ، صار كالحاصب ، والعذاب الواصب ، على النواصب ، وأبرم الردود والنقائض ، للروافض ، كسر ظهور النصيرية في كسروان ، وأبطل خرافات الجهل بالقرآن ، وحل ألغاز الحلولية ، ورد كيد الاتحادية ، حفر لحاداً للملاحدة ، وأخذ كل واحد منهم على حده ، ذاكرته أصابها وابل الرسالة ، وهمته جمعت الحكمة والبسالة ، وذاكرته حملت البراعة والجزالة ، يشفي بعلمه الجهل ، ويعم سيله الجبل والسهل ، ويروي بفتواه الجموع الوافدة ، ويخطب في الجموع الحاشدة ، يفسر الآية في أشهر ، فينفجر منه أنهر ، له صولات وجولات ، وعزمات ، وثبات وإخبات. واجه المغول في شقحب ، فذكرنا قصة علي ومرحب ، عجب بعضهم من شجاعته في تلك المشاهد ، وقال عنه في الليل أحسن عابد ، وفي النهار أشجع مجاهد .
    في الليل رهبان وعند لقائهم
    هذا ابن تيمية الذي عزّت به
    لعدوهم من أشجع الفرسانِ
    هـذِ الشريعة آخر الأزمانِ

    إذا تكلم قالوا القرآن بين عينيه ، والسنة كلها لديه ، والحكمة تتنزل عليه ، له كلام خالد ، ولفظ شارد، يقول : كل أرض لا تشرق عليها شمس الرسالة فهي أرض ملعونة ، وكل نفس لا تنتصر على الهوى فهي نفس مسجونة ، وكل مهجة لا تبصر الحق فهي مهجة مغبونة ، ويقول : المعاصي تمنع القلب من الجولان في فضاء التوحيد ، وتحبس النفس عن محبة الرحيم الودود .
    هذا الإمام بالحق يقول ، وله قبول ، جمع بين المنقول والمعقول ، له قريحة حيّة ، لا تقبل زيف القوانين الأرضيّة ، ونيّة صادقة، معه حجة ناطقة ، ونفس للحق عاشقة ، نفس تعاف الذل لغير الله حتى كأنه الكفر ، ويد بيضاء بالعطاء ومن وسخ الدنيا صفر ، رجل للملّة مديون ، وعمره للشرع مرهون ، وقلبه عن الدنيا مسجون ، وله عند ربه أجر غير ممنون . هذا الشيخ ليس بالمتكلف ، ولا للنصوص متعسّف ، عنده صفاء ذهن يغوص على الحقائق ، وقوة خاطر يدرك الدقائق.
    رد على أهل التصوف ، ونهاهم عن الانحراف والتكلف ، وألزم النواصب حب القرابة ، واحترام الصحابة ، وأنكر على الرافضة الغلو والشطط ، وبيّن لهم الخطأ والغلط ، وله الكلمة البديعة ، إذ يقول : لا يسع أحد مهما كان أن يخرج عن الشريعة ، ويقول : ليس أحد يدور معه الحق حيثما دار ، غير النبي المختار (صلى الله عليه وسلم) ، وهو القائل : كل يوم وأنا أجدد إسلامي ، وأكثر لنفسي اتهامي.
    وهذه مقطوعة من الراس لا من القرطاس، وهي تحية للشيخ أبي العباس:
    أبداً لسِـفْر المكرمات تُدبِّـجُ

    وتحيط برد الصالحات وتنسجُ

    لـك في المعالي دولة وولاية

    أنت الذي بهدى الرسول متوّجُ

    شيّدت صرح الدين ياعلم الهدى

    بالعـلم والإخلاص أنت مدجّجُ

    وكان يرى أنه لا يسع أي أحد الخروج على الشريعة ، وأن الأحوال والأقوال والأفعال المخالفة لها إنما هي أمور شنيعة ، ويقول في المنطق ، وهو قول عارف محقق : لا ينتفع به البليد ، ولا يحتاج إليه الذكي الرشيد .
    وهو لحم جمل ، غث على رأس جبل ، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل، والرجل له حسّاد ، لأنه تفرد وساد ، وجاهد لإصلاح كل فساد.
    وهو صاحب أحوال عجيبة ، وآراءٍ مصيبة ، وله مقامات جليلة ، ومذاهب جميلة، حلم عمن حسده ، وأكرم من قصده ، خاطب السلطان بأثبت جنان، وأفصح لسان ، وطالبه بحمل الناس على السنة النبويّة، والأخلاق المحمديّة ، وشفع لأهل الحاجات ، وأرباب الضرورات. ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، ولم يجعل له من دون الله ملتحداً ، بل كان يكتفي بالقليل ، ويراه كافياً لمن عزم على الرحيل ، وكان يعيش على شظف ، مقتدياً بمن سلف ، ويرى أن الزائد على القوت إشغال ، وأن الدنيا دار أهوال ، وكان ينفق كلما يجد ، ولم يحجب معروفه عن أحد ، وكان الغريب ، يجد عنده من الترحيب والتقريب ، والمؤانسة وعدم التثريب.
    وكان يعظّم السنة أجل تعظيم ، ويسعى في صيانتها عن كل معتدٍ أثيم ، وقد رزق السعادة في التأليف ، وأعطاه الله الحظ في التصنيف ، وقد طرقت العالم رسائله ، وأذنت في أذن الدنيا مسائله ، وشرّقت كتبه وغرّبت ، وسهّلت كل صعيب وقربت ، وفيها من حسن السبك ، ومتانة الحبك ، ما يدهش العقول ، مع جمعها بين المعقول والمنقول . وكان يعتصم بالبرهان ، ويعود إلى تحقيق وإتقان ، وأقر بعبقريته المخالف والموافق ، وعجب من سرعة بديهته المؤمن والمنافق .
    وقد نشر الله علومه ، وقهر خصومه ، وثبّت بالحق جنانه ، وسدّد بالصدق لسانه ، مع تمام ديانة، وكمال أمانة ، وحسن صيانة ، وعظيم مكانة .
    والرجل كالقمر الوهّاج ، والبحر الثجّاج ، سديد المنهاج ، قوي الاحتجاج ، وهو صاحب قيام وتهجد ، وأذكار وتعبد ، يلازم المسجد ، ويحب أحياناً العزلة والتوحّد ، لا يفاخر ، ولا تعجبه المظاهر ، ولا يكابر ، ولا يكاثر .
    وهو الذي صال وجال ، وغلب الرجال ، في المحافل المشهودة ، والمجامع المحمودة ، وكان يرهبه الملوك، مع أنه يتواضع لكل مسكين وصعلوك.
    وقرع بوعظه أسماع الظلمة ، حتى أهدروا دمه ، وعرّض نفسه للأخطار ، وخاض الأهوال الكبار ، وحسْبه الواحد القهار :
    إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
    فأهون ما يمر به الوحول

    وكأن هذا الإمام للدنيا عين إنسانها ، وهدية إحسانها ، ضَنّت بمثله الأعصار، وطنت بذكره الأمصار، نحْو سيبويه من شفتيه ينساب ،
    ولغة الخليل في فمه تذاب ، كأن المُزَني قطرة من مزنه ، والكسائي درهم في ردنه ، طالب خصومه بقتله فصفح ، وظفر بهم فعفا وسمح ، لو رآه ابن معين، لقال هذا إنسان العين ، ولو أبصره أحمد ، لقال هذا المجتهد المتفرد ، عرف من الحديث المتن والسند ، وما وقف على الظاهر وجمد ، بل غاص في المعاني ، وقطف من أغصانها الدواني ، وكان بمورد الشريعة بصيراً ، وقد تضلع بها وعب منها ماءاً نميراً ، عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً ، ولو أدركه الثوري لكان عنده أثيرا ، وقد مدحه ابن كثير كثيراً ، وقد ذهب الذهبي يفضل مذاهبه ، ويعظّم مواهبه ، وكان يكتب العقود ، ويحل القيود ، ويقيم الحدود ، وأقام الحسبة في الأسواق ، ونشر معتقد السلف في الآفاق ، وقد انجبر به كسر الدين ، ورفع به عَلَم الموحدين ، وكسرت به قناة الأكاسرة ، وأُرغمت بدعوته أنوف الجبابرة ، وربما خطب عند الولاة بصوت مرتفع ، تكاد القلوب منه تنخلع ، سجن المزّي فأطلقه ، وجادل البطائحي فأغرقه ، ورد على الإخنائي فأشرقه .
    ألف الاستقامة فأحيا بها سوق الأتّباع وأقامه ، وألّف درء التعارض ، وردّ على ابن الفارض ، وما نسينا، اعتراضه على ابن سينا ، ودحض بالرأي المصيب ، أخطاء الرازي ابن الخطيب ، وحذر من كذب الشعراء ، وزجر عن الظلم الأمراء ، وأخبر أن في الصوفية أخطاراً خفيّة ، مخالفة للسنة المصطفويّة ، ودفع بالدليل أهل التأويل ، وبالتأصيل أهل التعطيل ، وبحسن التحصيل، أهل التجهيل والتخييل ، وهو متكلم بارع ، لكل خير مسارع ، متبع للشارع ، وله إشراق في العبارة ، ولطف في الإشارة ، مع سلامة صدر ، وارتفاع قدر ، وربما كتب في الجلسة عدة كراريس ، يأتي فيها بكل مفيد نفيس ، وكان يطالع في الآية أكثر من مائة تفسير ، ثم يقلب بعد ذلك التفكير ، فيأتي بعد ذلك بعلم كثير ، وكان يمرغ جبهته ساجداً، ويدعو الله جاهداً، فيفتح عليه الفتاح العليم ، بكل معنىً كريم ، ورأيٍ مستقيم ، وكان يكثر من الابتهال والسؤال ، ويلجأ إلى الله في كل حال ، كثير التذلل لمولاه ، كثير الخشوع له إذا دعاه ، وكان يطيل الصلاه ، مخبتٌ أوّاه ، دائم الإلحاح والمناجاه ، والرجل محفوظ بعين الرعاية ، غني عن الإعلان والدعاية ، ترجم له حتى الخصوم ، والرجل ليس بالمعصوم ، لكن الله فتح عليه فتوح العارفين ، فكان آية السائلين ، وقد كشف أخطاء صاحب الكشّاف ، وبيّن مخالفته للأَسلاف ، وأظهر للأَحياء ، أغلاط صاحب الإحياء ، وزيف كتاب الفتوحات ، وأبرز ما فيه من أمور قبيحات ، وأغار على أساس التقديس ، وأخرج منه نزغات إبليس ، وسقى كأس الندامة، صاحب منهاج الكرامة ، وشرح مذهب الوسطية ، في الرسالة الواسطية ، وأظهر لدينه حميّة، في كتاب الحمويّة ، ودمّر صروح أهل المنطق في التدمريّة ، وردّ على الفلاسفة ، وأخبر أنهم أهل سفه ، وأنهم أخطأوا في الاسم والصفة ، وغلط التلمساني العفيف ، وأثبت ضلال القونوي صاحب التصنيف ، وزندق الحلاّج ، وذم الحجّاج ، وانتقد الغزالي ، وذكر أخطاء أبي المعالي ، ولام علماء الكلام ، وأهل الجور من الحكام ، وله رسالة في السياسة الشرعية ، وسِفْر في الأمور البدعيّة ، وله رسائل طويلة ، في التوسل والوسيلة .
    وتكالب عليه أهل البدع ، وسُجن فما رجع ، وكان الله معه فما وقع ، وجمعوا له العلماء فبزّهم ، وهدّدوه فهزّهم ، وقد خوّفوه السلطان ، وأخرجوه من الأوطان ، فما لانت له عريكة ، وما ذابت له سبيكة ، وعرضوه للموت ، فرفع على الباطل الصوت ، وحاولوا أن يُرْشوه ، وبالمال ينعشوه ، فأبى واستعصم ، وحلف وأقسم ، لا يبيع دينه بعَرَض ، ولا يكون له دونه غرض، وكان يطلب الشهادة ، ويجّود للآخرة زاده ، ويضمِّر للجنة جواده ، وامتُحن في سبيل الله أكثر من مرّة ، وحصل له الجاه فما غرّه ، والعُصاة كانوا يتوبون على يديه ، وتزدحم الوفود عليه ، وكان يتكلم بكلام يدهش الحاضرين ، ويذهب بلب المناظرين ، وكانت الطوائف تحضر درسه ، فيذهلهم بكثرة علومه في جلسه وأقسم بعضهم ما رأينا مثلك ، وما أبصرنا شكلك ، وكانت العامة تقف إجلالاً له في الطريق فيقابلهم بخلق رقيق ، وقد آذى الحسّاد أحبابه ، ونالوا أصحابه ، فما زادهم به إلا تعلّقاً ، وعليه إلا تحرّقاً ، والكل عليه مشفق ، والعالم على حبه مطبق ، وليس في تركته دينار ولا درهم ، فأنسى الناس بزهده إبراهيم بن أدهم ، وكلما حصل له من مال ، أنفقه ذات اليمين وذات الشمال ، وهو الذي أفحم القبورية ، ونشر معتقد السلف في سوريّة ، وألزم الحكام بشريعة الإسلام ، ودفع من قَرْمط في النقليّات ، وسفسط في العقليّات ، وهو الذي قعّد للعقيدة القواعد ، ودبّج تلك الفوائد الفرائد ، وكلامه يتميز على كلام سواه ، وقد نصره الله على من عاداه ، وظهرت على يديه كرامات ، وعليه من السنة علامات ، وذكر المِزي أنه ما سمع بمثله من خمسمائة عام .
    وأقسم الذهبي أنه ما رأى مثله من سائر الأقوام ، ولو طلب منه أن يحلف بين الركن والمقام ، وترجم ابن كثير لأبي العباس ، فنسي الدولة والناس ، وكتب عنه المستشرقون ، وعلى أخباره يتسابقون ، وله سيرة طويلة في دائرة المعارف ، ومخطوطات كثيرة في المتاحف ، وترجمت كتبه إلى اللغات الأجنبية ، واستفادت من أفكاره الحضارة الغربية ، والناس في كتبه ما بين مختصر ومعتصر، وناقد ومنتصر ، وقادح ومادح ، ومخرّج وشارح، وأثنى عليه المستشرق جولدزهير ، وألفت فيه عشرات الدكتوراة والماجستير ، وهو صاحب أثر ، وكتبه غرر ، ذب عن القرابة ، وأثنى على الصحابة ، له ذاكرة وقّادة ، وطبيعة منقادة ، وذهن حاد ، وعزم جاد ، إذا قصد باطلاً أزهقه ، وإذا اعترض على قولٍ مزّقه ، وقد طالعت من بعد القرن الثالث إلى زمانه ، فلم أجد مثله في عمله وذكائه وإتقانه ، ولا يغمط فضله إلا مكابر ، ولا يعاديه إلا مبتدع ماكر، وله نوافل وأوراد ، وأيامه بالطاعة أعياد ، فغفر الله ذنبه ، ولقي بالرضا ربّه ، وأنزله منازل الصادقين ، وجمعنا به مع النبيين والمرسلين ، آمين .
    انظم الدمع أيها الموت شعرا

    مثلما تملؤ المحاجر جمراً

    ففؤادي مضرّج بسهام

    قد رمته الأيام شفعاً ووترا

    ليت مليون مهجة سبقته

    للمنايا وقد تأخّر شهرا

    فبقاء العظيم في الأرض نفع


    وذهاب اللئيم يُذهب عسرا

  5. #15
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    مقـامَـــة الإمام محمّد بن عبد الوهّـاب



     يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ 
    أغر تشرق من عينيه ملحمة
    في همة عصفت كالدهر واتقدت
    من الضياء لتجلو حندس الظلم
    كأنه الغيث يسقي الأرض بالدِّيم

    الإمام المجدد ، شيخ الإسلام الموحد ، الذي جدد دين النبي محمد . أصبح في الإسلام علماً معروفا ، وصار بالإمامة موصوفا . دعا في التوحيد أصل الأصول ، وتابع
    الرسول ، وجمع بين المنقول والمعقول .
    خرج في زمن أحوج ما يكون إلى مثله ، في علمه وعقله ، فذكّر الخلف ، عقيدة السلف ، تدرع بالعلم في فترة ركنت العقول إلى الجهل ، وتسلح بالصبر في زمن قل الناصر لأهل الفضل ، وذكّر الناس بأعظم مسألة دعا إليها الأنبياء ، وهي أهم قضية عند العلماء ، فصحح للناس أصل المعتقد الحق في ربهم تبارك في علاه ، ونفض عن عقول أهل زمانه ما نال جناب التوحيد وشوّه محيّاه . فحمى جناب التوحيد ، وسدَّ كل ذريعةٍ تفضي إلى الشرك بالولي الحميد ، لم تكن دعوته صوفيه ، بنيت على شفا جرف هار من المخالفات البدعيه ، التي تنافي الأصول الشرعية ، بل كان صاحب أثر ودليل ، وتحصيل شرعي وتأصيل . ولم تكن دعوته فكرية تبنى على افتراضات العقول ، بل أثرية سلفية تقوم على ما صح من المنقول .
    هذا الإمام ، لم يشغل الأمة بعلم الكلام ، بل أسعد الناس بميراث سيد الأنام . ولم يتشدق بعلم المنطق ، بل سال بيانه بالعلم الموثق ، وجرى لسانه بالقول المحقق . وسلّمه الله من طيش الفلاسفه ، أهل الزيغ والسفه ، فكان صاحب حجة قاضيه ، على سنة ماضيه ، على طريقة من سار ، من السلف الأبرار ، يعرض المسألة في سهولة ويسر ، مجانباً المشقة والعسر ، فدنا إليه قطاف الملة المحمديه ، وجبى إليه ثمار الشريعة المحمديّه .
    عرف الجادة فوصل ، ودعا إلى ما دعا إليه الرسل . كان في زمنه علماء ، وفي عصره فقهاء ، لكن منهم من ظن أن السلامة في السكوت ، ولزوم البيوت ، وطلب القوت ، ومنهم من كان في علمه لوثة من البدع ، فكيف يدعو الناس إلى ما أنزله الله وشرع ، ومنهم من اشتغل بالمناصب ، عن أداء الواجب ، فهمه ثمن بخس دراهم معدودة من الحطام ، يأخذها ثمناً لفتاوى يتخذ بها جاهاً عند الطغام .
    أما هذا الإمام المحفوظ بالعناية ، المحاط بالرعاية ، فأشرقت شمسه من مطالع السنة ، وصارت قافلته الميمونة إلى الجنة .
    هذا المجدد لم يأت بمرسوم من الأستانة ، ولمن يطلب المنزل لدى العامة والمكانة ، بل جاء مصلحاً يعيد الأمة إلى سيرتها الأولى الربانية ، وإلى ما كانت عليه من المحاسن الإيمانية، والتعاليم الربانية . وجد في زمن هذا الإمام ، في بلاد الإسلام ، مشائخ لهم عمائم كالأبراج ، وأكمام كالأخراج . تُفعل أمام أعينهم كل طامة ، وهمهم تبجيل العامة ، يجبون الأموال بالاحتيال ، فلا يفتي أحدهم إلا بثمن معجل ، أو برهان مؤجل ، ليصبح العلم لديهم عمامة مكوّرة ، وجبة مدوّرة ، يعظّم بها لدى الرعاع ، ويسكت عن كل شرك وابتداع . يرى أحدهم الجهال يطوفون بالقبور ، فلا يغضب ولا يثور ، لأن دماء حب الدنيا في عروقه تجمد ، فهو تائه مقلد ، بارد متبلّد .
    فجاء هذا الإمام الذي ما تدنس بالدنيا جلبابه ، ولا اتسخت بالبدعة ثيابه ، وقد عقد العزم ، واتصف بالحزم ، تحدوه همة عارمة ، وعزيمة صارمة ، فدعا إلى تجديد ما اندرس من الدين ، وإظهار ما خفي من دعوة سيد المرسلين .
    فكان الناس معه أقسام ثلاثة ، فأصحاب حسد ، ضل رشدهم وفسد ، لسان حالهم : لماذا اختير هذا من بيننا ، إنه يدعو إلى غير ديننا ، فكبتهم الله بنصر هذا الإمام ، وتآكل حسدهم في صدورهم على مر الأيام .
    وأصحاب بدعة وهوى ، سقط نجمهم وهوى ، ذاق منهم الأمرّ ، فاحتسب الأجر وصبر . وأصحاب قلوب حيّة ، وفطر نقيّة ، عرفوا أن دعوته دعوة مرضيّة ، سلفيّة سنيّة ، فركبوا في سفينة التجديد ، مع هذا الإمام الرشيد ، حتى وصلوا معه إلى شاطئ الإصلاح ، وساحل الفلاح . فإذا رأيت من ينال هذا الإمام ، ويحط من قدر هذا الهمام ، فاعلم أنه مخذول مغرور ، أو جاهل مغمور .
    واعلم أن الصادق يجعل الله لدعوته التأييد والتمكين ، والكاذب يظهر الله عواره ولو بعد حين . وهذا الإمام لم يكن مطلبه السلطان ، وجمع الجنود والأعوان ، والاستيلاء على البلدان . بل كان قصده تصحيح معتقد الناس ، وتصفية التوحيد مما أصابه من الأدران والأدناس ، وإزالة الخطأ والالتباس ، فأصاب عين الحقيقة ، ولزم أحسن طريقة ، حتى شرّقت بالخير ركائبه ، وغرّبت بالفضل نجائبه ، فتقبلها عباد الله بقبول حسن ، وعدوها عليهم من أعظم المنن ، وشرق بها من ضل رشده ، وخاب جهده ، فما ضر إلا نفسه ، وما اقتلع إلا غرسه ، وهذه سنة الله في البشرية ، وحكمته في البريّة .
    لا تشرق شمس دعوة صادقة ، بالتوحيد ناطقة ، إلا قيض الله لها أنصاراً وأعداء ، لتتم سنته في المدافعة بين الفجّار والأولياء ، وليتخذ شهداء .
    بدأ الإمام بالتوحيد لأنه المسألة الكبرى ، والعروة الوثقى . لأن من يعلّم الناس الفروع وقد ذهبت الأصول ، كمثل من يداوي الأجسام وقد فقدت العقول ، وكيف تفلح أمة يطوف على القبور رجالها ، وينشأ على الشرك أجيالها .
    قبل أن تدرّس الناس الفروع الفقهية ، صحح لهم مسألة الألوهية ، وقضية العبوديّة ، لتأتي البيوت من أبوابها ، وترد المسببات إلى أسبابها .
    وقبل أن يعلم الناس أبواب السياسة ، وطرق الوصول إلى الرئاسة ، يجب تعليمهم الدين الخالص الذي دعت إليه الأنبياء ، والتوحيد الحق الذي جاءت به الملّة الغرّاء .
    هل يقر للعبد قرار وهو يسمع  وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ  . هل بعد هذا الإنذار من إنذار ، وهل فوق الخطر من أخطار ، والله يقول لنبيه وصفيه  لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ  . إن الأحزاب المفلسة ، والطوائف المبلسة ، أهملت مسألة التوحيد من حسابها ، وحجبت حقيقته عن أحزابها . فكان جزاؤها الخزي والهوان ، والذلة والخذلان، لأن أعظم المطالب العلمية ، وأكبر المقاصد العملية ، هي قضية الألوهية ، ولهذا تجد أنَّ أي دعوة قامت على غير التوحيد قد انهارت ، وأعلنت هزيمتها وبارت  فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ  .
    ما خُلق الكون ؟ وأوجدت فيه حركة وسكون ، إلا لمسألة عظيمة ذكرت في الكتاب المكنون :  وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ  .
    كانت دعوة الإمام المجدّد ، تنص على أن يعبد الله وحده ويوحّد ، قبل أن يعلم الناس الأحكام ، لابد أن تطهر قلوبهم من التعلق بالأوثان والأصنام ، وأن تزكى ضمائرهم من التعلق بالأنصاب والأزلام .
    قد يدرك الحلولي والاتحادي مسائل الفقه وهو ضال في باب التوحيد ، وقد يلم الصوفي والقبوري بالأحكام وهو جاهل بحق الله على العبيد . ولهذا تجد من نصب نفسه للفتيا في بعض البلاد ، يشاهد مظاهر الشرك تعصف بالعباد ، ثم لا ينكر ولو بإشارة ، ولا ينهى ولو بعبارة ، فأي صلاح لمن هذه حاله ، وأي علم ينتظر لمن هذه أعماله .
    لقد استقبلت الأمة دعوة هذا الإمام ، بالقبول والاهتمام ، فصار للمساجد دوي كدوي النحل بالعلم المأثور ، وصارت كتائب التوحيد تزيل القباب عن القبور ، وانتشر دعاة الحق ينفضون آثار الشرك والبدعة من الصدور ، فصار العامي بنور هذه الدعوة أصفى توحيدا ، وأخلص دينا ، من أئمة الطوائف المنحرفة ، لما جعل الله في قلبه من نور المعرفة . بعد أن عمّت الشرور ، وانطفأ النور ، وحار الناس في ظلمات الشرك بين نذور وقبور ، وسحر وكهانة وفجور ، فجدد الله بهذا الإمام معالم الدين ، وأيده بكتائب الموحدين ، فالحمد لله رب العالمين .
    حمداً على جلال النعمة ، وانكشاف الغمة ، وصلاح الأمة .

  6. #16
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــــة الـبـازيَّــــة



     قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ 
    إن قام سوق العلم فهو كمالك
    أو غاص في التفسير قلت مجاهد
    وإذا تزاحمت الوفود فحاتم
    أو مد باع الزهد فالشيباني
    والفقه والتعليم كالنعمان
    وكأحنفٍ في الحلم والغفران

    للقلب من ذكره اهتزاز ، وللقصيد في مدحه ارتجاز ، تفرد بالمكرمات وامتاز ، وحظي بحسن الثناء وفاز ، إنه عبد العزيز بن باز . أوصلته الهمة ، إلى إمامة الأمة ، وبلغته العزيمة المنـزلة الكريمة ، ودلته السنة ، طريق الجنة . خلق أرق من النسيم ، وعلم أعذب من التسنيم ، كلامه يوشى بالأثر ، كأنه در انتـثر .
    ابن باز : اتباع لا ابتداع ، وقبولٌ عم البقاع ، وفضله كلمة إجماع ، مع اعتصام بالدليل ، واهتمام بالتأصيل ، وبراعة في التحصيل ، يشرفه تحقيق في النقل ، وسداد في العقل ، جمع مع كرم الطبيعة ، رسوخ في الشريعة ، هجر في طلب العلم الرقاد ، فحصل واستفاد ، وأخذ الرواية بالإسناد ، حتى ترأس وساد ، وعم علمه البلاد والعباد .
    ابن باز : على نهج السلف ، بلا تنطع ولا صلف ، روح بالتقوى طاهرة ، ونفس بالعلوم باهرة ، أعذب من ماء السحاب ، وأرق من دمع الأحباب .
    ابن باز في هذا العصر : إمام الغرباء ، وعالم الأولياء ، وزاهد العلماء .
    تقلد ابن باز أرفع المناصب ، فكان آية في أداء الواجب . حضرت له مجالس وموائد ، وحملت عنه فوائد ، وألقيت عليه قصائد ، ورويت عنه فرائد .
    كانت محادثة الركبان تخبرنا
    حتى التقينا فلا والله ما سمعت
    عن شيخنا الباز تروي أروع الخبر
    أذني بأحسن مما قد رأى بصري

    لما جاء خبر وفاة هذا الإمام تعثرت به الأفواه ، وتلعثمت به الشفاه ، وقال القلب هذا خبر لا أقواه ، وقالت النفس ما أشد هذا المصاب على القلب وما أقساه .
    أصيب به الإسلام وارتج أهله
    كأن بني الإسلام يوم وفاته
    على فقده حتى أصيب به الصبر
    نجوم سـماءٍ خر من بينها البدر

    ابن باز بز بعلمه الأعلام ، وأتعب بسيرته الأقلام ، وأهدى عمره للإسلام ،
    وكفل بكرمه الأيتام .
    لو رآه يحيى بن معين لقال : مرحباً بعلم الإسناد ، ولو أبصره حاتم الطائي لقال : أهلاً يا سيد الأجواد ، ولو لقيه الأحنف بن قيس لقال : منكم الحلم يستفاد .
    ابن باز بَزَّ الأقران ، بطاعة الرحمن ، وعلم السنة والقرآن ، وإكرام الضيفان ، واحترام الإخوان ، وبر الأقارب والجيران .
    سعى سعيهم قوم فلم يدركوهمو
    ولكن لهم سبق الجلالة والعلا
    وما قصرّوا عند اللحاق ولم يألوا
    فجاء لهم من كل ناحية فضل

    إن زرته غمرك بالإكرام ، وأتحفك بالاحترام ، وآنسك بطيب الكلام ، وضيفك ألذ الطعام ، وعلمك الآداب والأحكام ، فهو يجمع الجودين ، وبما تقوم الدنيا والدين .
    ابن باز أبو الدعاة ، وشيخ القضاة ، وناصح الولاة ، تحبه لتقواه ، وتحترمه لفتواه .
    حاضر في الجامعات ، وتشرفت به المحاضرات ، وتعطرت بعلمه الندوات ، وطابت بلقائه الأمسيات ، وسعدت بوجوده الجلسات ، غني في زي فقير ، وزاهد في موكب أمير ومفتي في منصب وزير ، حمل كل أمر خطير ، فكان نعم المشير ، وصاحب الرأي الفطير والخمير ، عليه بسمة في وقار ، ولين في إصرار ، ودأب في استمرار ، السنة له شعار ، والصلاح له دثار ، وعليه من السكينة أنوار ، لم يكن لسانه كالمقـراض للأعراض ، ولم يكن له ارتياض في جلب المال والأغراض :
    عفيف من الدنيا خفيف من الخنا
    فلو قسمت أخلاقه في قبيلة
    كأَن به عن كل فاحشة وقرُ
    لصار لكل منهم المجد والفخرُ

    ابن باز : نفع للخليقة ، وإدراك للحقيقة ، ولزوم الطريقة ، عدل في الأحكام وإنصاف ، وتواضع تعنو له الأشراف ، وكرم تشهد به الأضياف .
    أثبت ابن باز أن العلم يشرف من حمله ، وأن المال يسوّد من بذله . ليس في قاموس ابن باز أن الجود يفقر ، بل صاحبه يشكر وبالخير يذكر ، لو ترجم كرم ابن باز في أبيات
    لقيل : أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا

    ولا تطع في سبيل الجود عذالا

    من جاد جاد عليه الله واستترت

    عيوبه وكفى بالجود سربالا

    تميز ابن باز بالتعمق في الأثر ، والغوص على الدرر ، مع تصحيح الخبر ،
    وصحة النظر .
    ابتعد ابن باز عن شقشقة علماء الكلام ، وعقعقة الفلاسفة الطغام ، وتشدق أهل المنطق اللئام . ولم يكن يسقط على السقطات ، ولا يلقط الغلطات ، بل كان يدفن المعائب ، ويذكر المناقب ، فملأ الله بمحبته القلوب ، وطار ذكره في الشعوب .
    فالعلم عنده حديث وآية ، ونور وهداية ، وعمل لغاية ، واستعداد لنهاية ، أعرض عن مذاهب المبتدعة الضلال ، وأهل الدنيا الجهال ، وأساطين القيل والقال ، وهجر الجدال ، فسلم من همز الرجال .
    خلق كأن الشمس تحسده على
    ضمنت له الدنيا الثناء فكلما
    كرم الطباع وزينة الأوصاف
    ذكروه جاد الناس بالإتحاف

    ليس في مجلسه أرقام الأسعار ، ولا فضول الأخبار ، ولا غرائب الأقطار ، ولا عجائب الأمصار ، وإنما كلام العزيز الغفار ، وحديث النبي المختار ، وما صح من آثار . ( كمثل حامل المسك إما أن تبتاع منه وإما أن يتحفك بطيبه ) .
    زهد ابن باز زهد متواضع ، لم يشر إليه بالأصابع ، ويعلن على الملأ في المجامع ، لأن الدنيا عنده أهون من أن يعظم الزهد فيها ، وأحقر من أن يمدح النظر إليها ، فكان زهده صامت ، وتواضعه ساكت . خدمته ألسنة الخلق بإعلان الفضائل ، وأحبته قلوب الناس فوعت تلك الرسائل .
    أفضل شيء في العالم : مراقبة الجليل ، والعمل بالتنـزيل ، والاستعداد للرحيل ، والرضا بالقليل ، وكذلك كان ابن باز .فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ
    وأحب شيء في الولي : المحافظة على تكبيرة الإحرام ، والكف عن الحرام ، والرحمة بالأنام ، وسلامة الصدر من حب الانتقام ، وطهارة الثوب من الآثام ، وكذلك كان ابن باز . كانت دعوته حسبة ، وعمله قربة ، فصار إماماً في زمن الغربة .
    وأكرم شيء في الرجل ، بسمة على محياه ، وصدقه في مسعاه ، وثباته في خطاه ، وإخلاصه في إعلانه ونجواه ، وكذلك كان ابن باز .
    وأحسن شيء في الإنسان ، طهارة الضمير ، والاستعلاء على كل حقير ، واحترام الكبير ، ورحمة بالصغير ، وعطف على الفقير ، وكذلك كان ابن باز .
    العلم ليس متوناً تحفظ ، ولا خطباً تلفظ ، ولكنه خشية وخشوع ، وتواضع وخضوع ، واتباع في الأصول والفروع ، وكذلك كان ابن باز .  وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ 
    والعلم ليس شهادات تعلق ، ولا مناصب تتسلق ، ولا دنيا تعشق ، ولكنه تقوى ومراقبة ، وورع ومحاسبة ، وتنبيه للغافل ، وتعليم للجاهل ، وكذلك كان ابن باز .
    عرفنا من العلماء من اشتهر بالخطابة ، والذكاء والنجابة ، وسرعة البديهة والإصابة وهذا أعظم ما يذكر به وعرفنا من العلماء من عندهم فهم ثاقب ، ونظر صائب ، وذهن يغوص على العجائب ، ثم ليس يذكر إلا بهذا .
    وعرفنا من عنده حافظة قوية ، وفي صدره متون مروية ، وفي ذاكرته علوم محكية ، ثم هذا غاية ما عنده . ولكن ابن باز حافظة بفهم ، وذاكرة بعلم ، وسداد في روية ، وثبات مع حسن طوية ، معه حجة ناطقة ، ونية صادقة .
    كالسيف إن تغمده أو تسلله ما
    معروفهٌ وثباته وصفاته
    في حده عيب ولا تقصير
    في صوته يوم القتال صرير

    بلغ ابن باز منـزلة لا يرفعه المدح ، ولا يضعه القدح ، فاستوى عنده الثناء والهجاء ، ولم ينفعه مدح الأصدقاء ، وما ضره ذم الأعداء ، لأنه يعامل رب
    الأرض والسماء .
    من كان فوق محل الشمس موضعه
    فليس يرفعه شيء ولا يضع

    ليس في قاموس ابن باز تفصّح ولا تبجّح ولا تمدّح .
    لا يحب الإطراء والمراء والإغراء ، لا يتزلف عنده برنين الدعاية ، ولا يتقرب لديه برخيص السعاية ، لأنه قد حقق الولاية .
    ليس العلم عند ابن باز بالتفاصح ، والتمادح ، والزهو بالمشالح ، والحرص على المصالح ، بل العلم لديه حمل الشريعة في إخبات ، وطلب الفائدة بإنصات ، والعمل بالحجة في ثبات . العالم من عند الحرام كف ، وعن الشهوات عف ، وقال على غرور الدنيا تف ، وكذلك كان ابن باز .
    ابن باز من مدرسة التجديد ، وليس من أهل التقليد ، بل هو صاحب حجة ، سالك المحجة ، معتصم بالبرهان ، عالم برضى الرحمن . ليس بمتعصب للمذهب ، بل يتبع الحق أينما وجد ، ولا يتجاوز الدليل إذا صح السند .
    صحبت هذا الشيخ فلم أر فيه عجرفة المتطاولين ، ولا تخرص المتقوّلين ، ولا ترخص المتأولين ، ولا غرور الجاهلين ، بل دأب في تحصيل الفضيلة ، وحرص على الصفات الجليلة ، واتصف بالأخلاق الجميلة .
    كان الشيخ يحترم الأئمة السالفين ، ولم يكن يجرّح المخالفين ، بل كان رفيقاً مما جعل الناس له مؤالفين .
    إذا صاحبت قوماً أهل فضل
    ولا تأخذ بزلة كل قوم
    فكن لهموا كذي الرحم الشفيق
    فتبقى في الزمان بلا رفيق

    إن التقوى إخلاص في الأعمال ، وصدق في الأقوال ، ومراقبة لله في الأحوال ، وكذلك كان هو . أدرك الشيخ شرف الزمان ، فوزع وقته في وجوه البر والإحسان ، وهذه أعظم علامة ، على بلوغه درجة الإمامة .
    فهو رجل خاصة ينصح ويعظ ويتلطّف ، ولا يغلظ ويشنع ويعنف .
    وهو رجل عامّة فكان بالناس رفيقا ، وبالمستضعفين رقيقا .
    وهو رجل شفاعات تُلبَّى لديه الطلبات ، وتحل عنده المشكلات ، ويجيب على التساؤلات ، وتعرض عليه المعضلات .
    الإمامة عند هذا الإمام : يقين عند الشبهات ، وصبر عند الشهوات ، وتحمل للمسئوليات .لم يكن هذا الإمام في فتواه يفرع المسائل حتى يحير السائل ، بل وضوح في العبارة ، ولطف في الإشارة ، فلا إسهاب يشتت الأذهان ، ولا اقتضاب يربك الحيران ، بل إصابة للقصد ، مع اختصار للجهد . فهو أدرى بقوله تعالى :  وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى  .
    وقالوا : من تابع الرسول ، ووقف مع المنقول ، وترك الفضول ، نال القبول وكذلك كان رحمه الله .
    وقالوا : من تقيد بالمأثور ، وآمن بالمقدور ، وعمل بالمأمور ، واجتنب المحذور ، فعمله مبرور ، وسعيه مشكور ، وهو مأجور وكذلك كان رحمه الله .
    وقالوا : من أرضى الحق ، ولطف بالخلق ، وصدق في النطق ، وعمل في رفق ، حصل من الرب على القرب ، ومن الناس على الحب ، وكذلك كان رحمه الله .
    ولولا أني عرفته ما وصفته ، والسبب في أنني أحببته ، لأنني صاحبته .
    ولا تقل إنني بالغت في المدح بل قصرت ، ولا تزعم أنني طولت في الثناء بل اختصرت . وقد عرفت في حياتي مئات العلماء ، والأدباء ، والشعراء ، والنبلاء ، والكل فيه فضل ، والجميع فيه نبل . ولكن الذي تفرد بالفضائل واصطفاها ، وجمع حسن الشمائل وحواها ، وعرف دروس المجد ووعاها ، هو هذا الإمام الهمام .
    وقد طالعت سِفْر صفات الصالحين ، وقرأت ديوان المفلحين ، وراجعت علامات الناجحين ، فوجدتها فيه منطبقة ، وعليه متّسقة .
    ولو حرص الكثير لما استطاعوا
    إلى ما فيك من كرم الخصال

    وابن باز جمع بين ثلاث ميمات ، لها قيمات ، ولها عليه سمات وعلامات .
    فميم العلم ، والرسوخ في الفهم ، وهي إمامة مقدسة ، على الوحي مؤسسة .
    وميم الكرم والسخاء ، والتي حرم منها البخلاء ، فصار هذا الشيخ بالكرم رئيسا ، وعند الناس نفيسا . وميم الحلم فلا يغضب ولا يعتب ولا يصخب ولا يضرب .
    وقد قرأت عليه قطعة من مسند أحمد في المسجد ، فكان يتكلم بقول مسدد ، ورأي بالصواب مؤيّد ، ولا يتردد . وألقيت عليه قصيدتي البازيّة ، وهي فصيحة لا رمزيّة ، فقابلها بالقبول ، واللطف في القول ، ودعا لي بالتوفيق ، كأنه والد شفيق .
    وألقيت عليه قصيدتي في أبي ذر ، فاستأنس وسر ، وقصائد كثيرات ، في لقاءات ومخيمات ، وندوات وأمسيات .
    يا ليت أيامي تعود فذكرها
    في عهد هذا الفذ قد أشجاني

    وهو أول ضيف افتتح بيتي في الرياض ، وقد أفاض عليّ من بره ما أفاض ، وما رأيت منه في حياتي الجفاء والإعراض :
    أنا ممن سماحته أنالت
    عليه تحية الرحمن تغدو
    وممن دربت تلك الأيادي
    لما أسداه من نفع العبادِ

    بل كان دائماً كثير الترحاب ، لـيّن الجناب ، قريباً من الأحباب ، مكرماً للأصحاب .
    وقد شجعني على الدعوة بخطاب منه مختوم ، وباسمه موسوم ، وبأنفاسه مرسوم ، وهو عندي إلى اليوم . وقد وصلت دولاً أعجمية وعربية ، وشرقية وغربية ، فما رأيت مثل هذا الإمام ، على كثرة من عرفنا من الأنام . وأظن عين المجد قد بكت عليه ، وروح التاريخ حنت إليه ، ولو فاح طيب ثناءه في الوجود لكان مسكا ، ولو نظمت مكارمه في عقد لانفصم من طوله سلكاً سلكا . وقد رثاه العامة والحكام ، ورجال الإعلام ، وحملة الأقلام ، وبكاه رجال الصحافة ، وأهل الأدب والثقافة ، ونوه بفضله العلماء ، وبكاه الشعراء ، وأثنى عليه الأدباء ، وحزن عليه الزعماء . وما سمعنا بمثل جنازته في الإسلام ، ولم نعلم أنه مر مثلها مع الأيام ، من كثرة الزحام ، وما حل بالمسلمين من الآلام .
    فقد اختلط الترحم عليه بالدموع ، وماجت كالبحر الجموع ، وأعلن خبر موته الإعلام المرئي والمسموع . ووددت أن النصارى شاهدوا جنازته واليهود ، ورأوا ذلك الموقف المشهود ، وأبصروا تلك الحشود والبنود ، والوفود والجنود ، ليعلموا منـزلة علمائنا ، وقَدْر حكمائنا ، وأننا أمة تقدس الديانة ، وتوقر حملة الأمانة ، وأهل الرزانة والصيانة .
    ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة
    تردى ثياب الموت حمراً فما أتى
    غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
    لها الليل إلا وهي من سندس خضر

    وقد رثيته بقصيدة بازيّة ، أصف فيها عظم الرزيّة ، أنزله الله رضوانه ، وأسبغ عليه غفرانه ، وبوّأه أكرم نزل ، وألبسه أجمل الحلل ، جزاء ما قدّم ، وأفاد وعلّم ، وأتحف وأكرم ، فله علينا حق الدعاء ، وحسن الثناء ، وهذه سنة الوفاء ، ومذهب الأصفياء ، وعسى الملك العلام ، ذو الأيادي العظام ، والمنن الجسام ، أن يجمعنا به في دار السلام ، مع السلف الكرام .
    قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي
    لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا
    عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم
    يفديك من جعل الدنيا رسالته
    فقمت أنشد أشواقي وألطافي
    فهو الغفور لزلاّتي وإسرافي
    لأنها ذكرتني سير أسلافي
    من كل أمثاله تفدى بآلافِ

  7. #17
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــة الـدّعـويّــــة



     وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ 
    أنت كنـز الدر والياقوت في
    محفل الأيام في شوق إلى
    لجة الدنيا وإن لم يعرفوك
    صوتك العالي وعساهم يسمعوك

    ترى الناس بلا دعوة أيتاماً ، لا يعرفون حلالاً ولا حراما ، ولا صلاة ولا صياما ، ولا سنناً ولا أحكاما ، فالدعوة لرئة الأحياء هواء ، ولكبد الدنيا ماء ، ولذلك أرسل الله الأنبياء ، وخط في اللوح ما شاء .
    أخوك عيسى دعا ميتـاً فقام له

    وأنت أحييت أجيـالاً من الرمـمِ

    من نحن قبلك إلا نقطة غرقت

    في اليم أو دمعة خرساء في القدمِ

    وقد حملت القلم والدواة ، ورافقت الدعاة ، ولقيت العلماء والقضاة ، وعرفت البسطاء والدهاة ، وجبت مع إخواني البلاد ، وخالطت العباد ، فكم عرفنا من ناد وواد ، وسرنا في حاضر وباد ، فأخذت من الناس المواهب ، واستفدت من الزمان التجارب ، وميّزت المشارب ، ونزلت تلك الخيام ، والمضارب .
    فالداعية الناجح ، والواعظ الصالح ، من جعل محمّداً إمامه ، فعرف هديه وكلامه ، فراش بهداه سهامه ، وجمل بسنته مقامه . والداعية من كان بالناس رفيقا ، وعاش معهم رقيقا ، وصار بهم شفيقا ، فاجتنب العنف والتجريح ، والإسراف في المديح ، فلزِم القول الليّن ، والخُلق الهيّن ، فصار لقلوب الناس طبيبا ، ولأرواحهم حبيبا .
    غلام إذا ما شرّف الجمع صفقت
    له منطق لو أن للسحـر بعضه
    له أنفـس الحضر واكتمـل البشرُ
    مشى بيننا من حسن طلعته السحرُ

    ولي في الدعوة انتقال وارتحال ، والفضل لذي الجلال ، وليس لي في الفضل فِلْس ولا مثقال . وكانت البداية في أبها ، وهي من الشمس أبهى ، ومن الزلال أشهى ، وأهلها من أرق الناس قلوباً ، وأقلهم عيوباً ، تغلب عليهم الاستجابة ، والذكاء والنجابة .
    هيّنون ليّنون أيسار بنو يسر

    صيـد بها ليـل حفـّاظون للجـار

    من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم

    مثل النجوم التي يسري بها الساري

    ثم زرت مكّة ، فعرفت من الحب يقينه وشكّه ، فصرت لأهلها بالمودة ضامناً ، وصار الأنس في قلبي كامناً ، وآمن فؤادي ومن دخله كان آمنا . فلو أن الثرى يُقَبَّل لقبّلت ، لكنني لما رأيتها كبّرت وهلّلت ، وحول البيت هرولت .
    كبّرت عند ديارهم لما بدت

    منها الشموس وليس منها المشرق

    وعجبت من بلد مكارم أهلها

    فيها السحاب صخورها لا تورق

    ثم سرت إلى الرياض ، وأنا من الهم خالي الوفاض ، فلاحت لنا الأعلام النجدية ، والأماني الوردية ، ووصلنا أرض التوحيد ، وبلاد التجديد ، فوجدنا العلماء ، والكرماء ، والحلماء .
    لو كان يقعد فوق الشمس من كرم

    قوم بآبائهم أو مجدهم قعدوا

    محسـدون على ما كان من نعم

    لا ينـزع الله منهم ماله حسدوا

    ثم حملنا الشوق إلى طيبة ، وهي أمنيتنا في الحضور والغيبة ، وهي أرض الجلال والهيبة ، فيا قلب والله لا ألومك في هواك ، ولا أردك عن مناك ، لأن أحب الناس يرقد هناك . أليس في هذه الروابي مشى محمّد ، وصلى وتعبد ، وقام وتهجد .

    بنفسي تلك الأرض ما أحسن الربا

    وما أحسن المصطاف والمتربعــا

    كتبنا عليـها بالدمــوع صحائفاً

    هي الدار صارت للمحبين مضجعا

    ثم رحلنا إلى جدة ، ولنا عنها مدة ، فلما وصلناها ذهب كل عناء وشدة ، وقد أخذنا من الحب عدة ، وحملنا في القلوب مودة . فلقينا بها شباباً كالسحاب ، برؤيتهم تم الأنس وطاب ، وذهب الهم والأوصاب ، أخلاقهم أرق من النسيم ، وعشرتهم أجمل من الدر النظيم .
    هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا

    أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا

    بهاليل في الإسلام سادوا ولم يكن

    لأولهم في الجاهلية أولُ

    ثم جاءتنا برقية ، فسافرنا إلى الشرقية ، وما أبقى لنا الشوق بقية ،فقابلونا بالحفاوة والإكرام ، والحب والاحترام ، ووجدنا رقة الحضارة ، والبشاشة والنضارة ، فعجزنا عن الشكر ، وهام بنا إليهم الذكر ، وما نسيهم الفكر :
    لله تلك الـدار أي محـلة

    للجود والافضال والتكريمِ

    هم كالشموس مهابة وجلالة

    أخلاقهم في الحسن كالتسنيمِ

    ثم قلت لصاحبي مالك في الجدال خصيم ، تقول القيصومة ، وأنا أقول القصيم ، فلما وصلنا تلك الديار، وعانقنا الأخيار ، وجدنا أهل الديانة ، والأمانة ، والصيانة . عفاف في طهر ، كأنهم نجوم زهر ، أشاد بمكارمهم الدهر .

    قل للريـاح إذا هبت غـواديهـا
    واكتب على أرضهم بالحب ملحمة
    حي القصيم وعانق كل من فيها
    أرض الديانة قاصيهـا ودانيها

    ثم دخلنا حائل ، والقلب إليها مائل ، فلقينا أبناء المكارم ، وعانقنا أحفاد حاتم ، فرجح حبهم في الميزان ، وحدثناهم في جامع برزان ، واعتذرت من إبطائي ، ثم ألقيت قصيدة نادي الطائي :
    لا عيب فيهم سوى أن المقيم بهم

    يسلو عن الأهل بل كل الأحباءِ

    في حائل قد بنى الإكرام منـزله

    أبوهموا في المعالي حاتم الطائي

    ولما هبطنا الباحة ، وجدنا الأنس والراحة ، وقد عانق القلب أفراحه ، ونسي أتراحه ، فغمد حسام الإسلام غامد ، كم بها من عابد ، وزاهد ، وساجد .
    وزهرة المكارم زهران ، صرت في ليلي عندهم من الفرح سهران ، سيرتهم أطيب سيرة ، وسريرتهم أحسن سريرة ، لأنهم أبناء أبي هريرة :
    في الباحة الغـراء كان لقاؤنـا

    ما أحسن اللقيـا بلا ميعادِ

    شيدت بها الأخلاق في أوطانها

    تلقـاك بالأجـواد والعبـادِ

    وقد هبطنا تهامة ، فلا ملل ولا سآمة ، وأقمنا أحسن إقامة ، فوجدت الجود خلفي وأمامي ، ولمست الإكرام ورائي وقدامي ، وكفاهم أن الرسول تهامي ، تفيض وجوههم مما عرفوا من الحق ، وتشرق وجوههم مما حملوا من الصدق :

    أتهمت في طلب المحبة والهوى

    يا ابن المحبة والوداد تهيامي

    لما أتيـتهموا نسيت سواهمـوا

    ضيعت قبل وصولهم أيامـي

    ولما أتينا جيزان ، والجو قد زان ، نسينا من السرور الأهل والجيران ، ووجدنا الحلقات الشرعية ، والآثار القرعاوية ، والجهود الدعوية ، والكل منّا يلاحظ ، تلاميذ الحكمي حافظ ، حيث ولدت العبقرية ، ولازالت القرائح غضة طريّة ، ولمسنا العزم والهمم ، ووجدنا الجود والكرم :
    جازان إني من هـواك لشاك

    أشجيتني وأنا الذي أشجاك

    يا فتنة النّادي طربت وعادني

    ما يشبه الأحلام من ذكراك

    وأهم ما يُدعى إليه التوحيد ، فإنه حق الله على العبيد ، ومن أجله بعث الرسل ، وكل كتاب به نزل ، وهو رأس العمل . وعلى الداعية أن يعمل بما يقول ، ليضع الله له القبول ، فكل من ترك الهدى فهو مخذول ، كلامه ساقط مرذول .
    ولتكن للداعية نوافل وأوراد ، وحسن خُلق مع العباد ، وإصلاح لنفسه وجهاد ، ومحاسبة لها قبل يوم التناد .
    وليكثر من الأذكار ، بالعشي والإبكار ، وليراقب الواحد القهار ، مع قراءة سيرة الأخيار، ومصاحبة الأبرار ، والزهد في هذه الدار ، وليعتقد في نفسه التقصير ويعترف ، ويخشى مما اقترف ، ويبكي على ما سلف ، وعلى ما كان عليه السلف يقف ، وليسلم من الهلاك والتلف ، وليتقيّد بما شرع ، وليحذر البدع ، فإن النفس أمّارة ، والنفس غرّارة ، وليجوّد العبارة ، ويحسن الإشارة ، وليوقر الكبير ، ويرحم الصغير ، ويعطف على الفقير . وليأت المنابر بعزم وثاب ، وقلب غير هيّاب ، وأسلوب جذّاب ، وليعد العدة قبل أن يلقي الخطاب ، وليتذكر حديث : (( لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )) ، فإن هذا من أجل النعم ، وليحمد ربه وليشكر ، حيث جعله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وليعلم أن معلم الخير ، وناصح الغير ، يستغفر له الطير ، والحوت في الغدير . فطوبى لمن كان للرسول خليفة ، وما أجلها من وظيفة ، فهي المنـزلة الشريفة ، والدرجة المنيفة ، فهذا عمل الأنبياء ، وشغل العلماء ، وقربة الأولياء ، فهنيئاً له الأجر ، ورفعة الذكر ، وجلال القدر ، وصلاح الأمر .
    فسبحان من اصطفى من عباده دعاة إلى الجنة ، أعلاماً للسنة ، له عليهم أجل نعمة ، وأعظم منّة .

  8. #18
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــات الـوعظـيــة


     أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ 
    أما والله لو علم الأنام
    حياة ثم موت ثم نشر
    لما خلقوا لما غفلوا وناموا
    وحشر ثم أهوال عظامُ

    قلنا لأحد العلماء ، النبلاء ، الأولياء : عظنا موعظة ، للقلوب موقظة ، فإن قلوبنا بالذنوب مريضة ، وأجنحتنا بالخطايا مهيضة ، فنحن قد أدمنّا الذنوب ، وعصينا علاّم الغيوب ، حتى قست منا القلوب ، فقال : واحرّ قلباه ، واكرباه ، يا ربّاه ، يا ابن آدم تذنب ولست بنادم ، الأنبياء يبكون ، والصالحون يشكون ، تتابع المعاصي ، وتستهين بمن أخذ بالنواصي ، ويحك كيف تلعب بالنار ، وتستهين بالجبار ، يغذيك ويعشِّيك ، ويقعدك ويمشيك ، ثم تنهض على عصيان أمره ، مع علوِّ قدره ، وعظيم قهره ، ويلك هذا الملك كسر ظهور الأكاسرة ، وقصّر بالموت آمال القياصرة ، وأرغم بالجبروت أنوف الجبابرة ، الروح الأمين ، وَجِل مسكين ، من خوف القويّ المتين ، ومحمد يتهجد ويتعبد، وهو الذي دعا كل موحِّد ، ومع هذا يتوعد ويهدد ، من ركن لكل كافر وملحد .
    أين عقلك يا مغرور ، هل نسيت يوم العبور ، وساعة المرور ، كل طائر من خوفه يخرُّ صريعًا ، وكل كاسر يئن من خشيته وجيعًا ، أبو بكر انتفض من خوفه كالعصفور ، وصار صدره بالنشيج يفور ، وسقط الفاروق من الخشية على الرمال ، حتى حُمِل على أكتاف الرجال ، وبقي ذو النورين ، من منظر القبر يبكي يومين ، وهذا علي بن أبي طالب دموعه من التذكر سواكب ، كان عمر بن عبد العزيز ، يرتعد ولصدره أزيز ، ويقول : يا قوم ، اذكروا صباح ذلك اليوم ، ويلك والله لو أن القرآن نزل على صخر لتفجر ، ولوهبط على حجر لتكسر ، وتقرؤه وأنت لاهٍ ساه ، تتفكر في المنصب والجاه ، كأن الليالي لا تطويك ، والكلام لا يعْنيك ، تدفن الآباء والأجداد ، وتفقد الأخوة والأولاد ، وأنت لازلت في إصرار وعناد ، سبحان الله تغترّ بالشباب ، وتزيّن الثياب ، وتنسى يوم يُهال عليك التراب :
    أبداً تصرُّ على الذنوب ولا تعـي

    وتكثر العصيان منك وتدَّعي

    أبـداً ولا تـبكي كأنـك خالـد

    وأراك بين مـودِّعٍ ومشـيِّعِ

    لا تغفل ذكره ، ولا تنس شكره ، ولا تأمن مكره ، هو الذي عفر بالطين ، أنف فرعون اللعين ، وفرّق جنوده أجمعين ، مساكن من عصاه قاع قرقر ، بعد ما أرسل عليهم الريح الصرصر ، إذا غضب دمر المنازل على أهلها ، وسوّى جبالها بسهلها ، شابَ رأسُك، وما خفّ بأسك ، ومازال في المعاصي فأسك ، ما لك ما تردّك الآيات ، ولا تزجرك العظات ، ولا تتذكر الأموات ، مصرٌّ مستكبر ، تركب كل أمر منكر .
    سمع ابن وهب آية  وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ  ، فسقط مغشياً عليه في الدار ، ثم مات في آخر النهار ، سمع عمر ، بعض السور ، فطرح دُرّته وانقعر ، فبقي مريضاً شهر ، وصارت دموعه نهر ، قرأ سفيان سورة الزلزلة ، فسُمع له ولولة ، كأنها أصابت مقتلة ، بعض الصقور تسقط من السماء ، وإن من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء ، وأغميَ من الخشية على كثير من العلماء .
    كأنك ما سمعت بطورسينا
    تخـرُّ له الجبابـر وهي تـبكي
    عـراة نحـن فيـه فيـا لهـولٍ
    ويوم صـار مـن طـولٍ سنـينا
    ويحـصي فـيه ربي ما نسينا
    كأنا مـا طـعمـنا أو كـسينا


    ويحك خَف ربك ، وراجع قلبك ، واذكر ذنبك ، موسى خرّ من الخوف مغشياً عليه مصعوقاً ، ويوشع صار قلبه من الوجل مشقوقاً ، وبعضهم أصبح وجهه من الدموع محروقاً ، كيف تصبح وتمسي ، والرسل كل يقول نفسي نفسي ، أعجبتك الدور والقصور يا مغرور ، ونسيت القبور ، ويوم النشور ، يوم يحصل ما في الصدور .
    والذي نفسي بيده ما تساوي الدنيا فتيلة ، ولا تعادل في القبر فزع أول ليلة ، يوم تطرح فيه وليس لك حيلة ، استنفق مالَك ، وراجع أعمالك ، وزن أقوالك .
    وخطك الشيب ، وما تركت العيب ، تشاهد المصارع ، وتسمع القوارع ، وتنهال عليك الفواجع ، تنسى الرب ، يا ميّت القلب ، الصحابة من الخوف مرضى ، وطلحة ينادي : اللهم خذ من دمي حتى ترضى ، ما شاء الله ما تحضر صلاة الفجر ، ولا تطمع في الأجر ، وجعفر تقطعت بالسيوف أوصاله ، وارتفع بالفرح تهليله وابتهاله .
    على شفرات السيف مزقت مهجتي

    لترضى وإن ترضى عليّ كفاني

    فلو كتبـتْ منّا الدمـاء رسـالـةً

    لخطَّت بحـب الله كـل جـناني

    ويلك أنت مهموم بالقرش ، والفرش ، والكرش ، وسعد يهتز لموته العرش .
    تهاب الوضوء إذا برد الماء ، وحنظلة غُسل قتيلاً في السماء ، تعصي حي على الفلاح ومصعب بن عمير قدم صدره للرماح ، ما تهتز فيك ذرة ، والموت يناديك في كل يوم مائة مرة ، والله لو أن في الخشب قلوب لصاحت ، ولو أن للحجارة أرواح لناحت ، يحن المنبر للرسول الأزهر ، والنبي الأطهر ، وأنت ما تحن ولا تئن ، ولا يضج بكاؤك ولا يرن.
    لو مُتَّ لعذرناك ، وفي قبرك زرناك ، ولكنك حيُّ تأكل وتشرب ، وتلهو وتلعب ، وتغني وتطرب .
    بعض الصالحين أتى لينام ، فترك الفراش وقام ، وأخذ ينوح كما تنوح الحمام ، قالوا مالك ؟ قال : تذكرت يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ وهذه الآية كافية .
    تواصل الذنب لا تدري بعاقبةٍ

    وتسـتهين بأمر الواحد الصمد

    كأن قلبك مطبـوع عليه فـلا

    تخشى عقاباً ولا تبكي على أحد

    سعيد بن المسيّب ، الإمام المحبب ، والزاهد المقرب ، ذهبت عينه من كثرة الدموع ، واصفر وجهه من الخشوع ، وهو ما بين سجود وركوع ، يزيد بن هارون ، الإمام المأمون ، عمي من البكاء ، فما أَنّ ولا اشتكى ، فقالوا له : ما فعلت عيناك الجميلتان ، فقال : أحتسبهما عند الواحد الديّان ، أذهبهما بكاء الأسحار ، وخوف الواحد القهار. والله إن فينا علّة ، ننام الليل كلّه ، كأنا لسنا من أهل الملّة .
    شغلنا بالـبنين وبالحـطام
    كأنا قـد خلقـنا للـنوادي
    ولم نسـرع إلى دار السـلام
    وإكثـار الشـراب مع الطعام

    الملَك حمل الصور لينفخ ، والملائكة تكتب عليك وتنسخ ، وأنت بالذنوب ملطّخ، ما تبكي لك مقلة ، كأنك أبله ، كان ابن المبارك من البكاء يخور ، كأنه ثور منحور ، وابن الفضيل يموت في الصلاة ، لأنه سمع من الإمام قرآناً تلاه ، ترك ابن أبي ذئب القيام لأمير المؤمنين ، وقال ذكرت يوم يقوم الناس لرب العالمين ، كان ميمون بن مهران ، كأن عينيه نهران ، حفر له في البيت قبر ، إذا رآه فكأنه يُنقر في قلبه نقر ، يا ويلاه القبر القبر .
    يقول أحد السلف : يا مغرور إن كنت تظن أن الله لا يراك ، وتفعل هذه الأفعال فأنت شاكّ ، فما غرّك وألهاك ، وإن كنت تعلم أنه يبصر أفعالك ، ويحصي أعمالك ، ويراقب أقوالك ، ثم تتجرَّأ على محارمه ، وتستهين بمعالمه ، فقد سُلب قلبُك ، وأُخذ لُبّك.
    ولو أن قلباً يعرف الله لاستوى

    لديه نعيم العيش والحدثانِ

    فما هي إلا جيفة طاف حولها


    كلابٌ فلا تخدعك باللمعانِ


    ابن تيمية يمرغ وجهه في التراب ، وينادي يا وهّاب ، يا فاتح الأبواب ، الطف بنا ساعة الحساب ، وأنت ميّت الإرادة ، ظاهر البلادة ، عريض الوسادة . الملائكة يسبِّحون الليل والنهار لا يسأمون ، ويذكرون ربهم ولا يفترون ، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولم يعملوا سيئات ، ولم يقترفوا خطيئات ، ولم يرتكبوا موبقات ، ونحن أهل العصيان ، والتمرد والنكران ، ومع هذا ترانا لاعبين ، وفي طرق اللهو ساربين، ولِكأس الغفلة شاربين ، الأمر فصل، وجدٌّ ليس بالهزل ، يوم قمطرير ، شرُّه مستطير ، تكاد القلوب منه تطير ، تذهل المرضعة عما أرضعت ، وتُسقط الحامل ما حملت ،وترى كل نفس ما عملت ، الخلائِق تضيق نفوسهم ، الولدان تشيب رؤوسهم .
    هدِّ من لهوك شيئاً هدِّ هَـدّ
    أرغِم النفس على فعل التقى
    إنّ أمـر الله فينا جِدُّ جدّ
    فاز من في عمره كَدّ كَدّ



    أراد علي بن الحسين أن يلبي على الراحلة ، فسقط من الخوف بين القافلة ، فلما أفاق ، قال للرفاق : أخشى أن أقول لبيك ، فيقول : لا لبيك ولا سعديك ، مع أنه زين العابدين ، وريحانة المتهجدين ، لكن القوم عرفوا ربهم ، فبكوا ذنبهم ، وجمعوا خوفهم وحبهم ، فيا صاحب العين التي لا تدمع ، والنفس التي لا تشبع ، والقلب الذي لا يخشع ، إلى متى تؤجِّل التوبة ، أما لك أوبة :
    فيا دمع هذي ليلة البين أقبلت

    فهات غروباً تبرد الزفرات

    ويا قلب قد عاهدتني فكذبتني

    كأنك لا تجزعْ من الغدرات

    العمر قصير ، والشيب نذير ، والدار جنة أو سعير ، نراك تضحك كأنك أتاك أمان، من الملك الديان ، ما لك لا تحزن، هل عبرت الصراط حتى تأمن، الندم على ما فرطت أحسن ، يا مسكين : إبراهيم الخليل ، وهو النبي الجليل، بكى ذنبه ، ودعا ربه، وقال :  وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ  ، فكيف بنا نحن المذنبين ، خلقك فسوّاك ، وأطعمك وسقاك، وآواك وكساك ، ومن كل بلاء حسنٍ أبلاك، ثم تعصيه وهو يراك :
    نُسِجت لنا الأكفان من أعمارنا

    ونظلُّ نضحك ما لنا تفكيرُ

    أوَ ما ذكرت القبر أول ليلـةٍ

    يـلقاك فيه منـكر ونكيرُ


    أحسن ماء دموع التائبين ، أعظم حزن حزن المنيبين ، وأهنأ نعاس نعاس المتهجدين، أجمل لباس لباس المحرمين ، ما ألذ جوع الصائمين ، ما أسعد تعب القائمين ، ما أكرم بذل المتصدقين ، أين المباني والمغاني ، أين الغواني والأغاني ، أين الأفراح والتهاني ، أين من شاد وساد ، أين ثمود وعاد ، أين ساسان ، وقحطان ، وعدنان ، وفرعون وهامان ، أين مُلْك سليمان ، أين أصحاب الأكاليل والتيجان ،  كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ، والطَّول والإنعام .
    أما زرت المقابر ، أما هالتك تلك المناظر ، أما رأيت القوم صرعى، والدود في عيونهم يرعى ، عن الحديث سكتوا ، وعن السلام صمتوا ، الظالم بجانب المظلوم ، والمنتصر بجانب المهزوم ، والضعيف مع الأمير ، والغني مع الفقير ، وانظر إلى المغمور والمشهور، والغالب والمقهور ، ذهب الحُسْن والجمال ، والجاه والمال ،وبقيت الأعمال ، أموات يتجاورون ، ولا يتزاورون .
    سكـتوا وفي أعماقـهم أخبارُ
    وتغيرت تلك الوجوه وأصبحت
    وجـافاهمُ الأصحـاب والزوّارُ
    بعد الجمال على الجفون غبارُ

    ماذا أعددت عندما توقَف ، يا من هجر المصحف .
    الزبير بن العوام ، بطل الإسلام ، جسمه كله جراح ، من آثار السيوف والرماح . وخالد بن الوليد ، الشجاع الفريد ، يُمزق جسمه بالسهام ، ويخطط بدنه بالحُسام ، لينتصر الإسلام ، بلال بن رباح ، يسمع حي على الفلاح ، فيجيب لسان حاله لبيك منادي الإصلاح ، يُصهر جسمه على الحجارة ، ليصبح مؤذن الإسلام على المنارة ، يعذِّبونه ، وفي الرمضاء يذيبونه ، فيردد أحد أحد ، لأنه ذاق قل هو الله أحد ، الله الصمد، يُضرب رأسه ، ويُكتم نَفَسه ، فما يزيده ذلك إلا إصرارا ، وفي طريق الحق استمرارا :
    سيّدي عـلِّل الفـؤاد العلـيلا
    إن تكن عازماً على قتل روحي
    وأحيني قبل أن تراني قتيلا
    فترفـق بها قلـيلا قلـيلا

    انظر لسلمان ، أقبل من خراسان ، يبحث عن الإيمان ، هجر ماله وأوطانه ، وإخوانه وخلانه ، وأعوانه وجيرانه ، يسأل عن الإمام ، بدر التمام ، رسول الإسلام ، فينطرح بين يديه ، ويلقي نفسه عليه ، ويبث شجونه إليه، فمرحباً يا سلمان يوم أتيت ، وهنيئاً لك يوم اهتديت ، واقبل هدية : سلمان منّا آل البيت :
    فلا تحسب الأنساب تنجيك من لظى
    أبو لـهب في النار وهو ابن هاشم
    ولـو كـنت من قيسٍ وعبد مدانِ
    وسلمان في الفردوس من خُرَسانِ

    لما حضر الصحابة مدينة تستر ، وسل كل منهم سيفاً أبتر ، فنادوا بطل المعارك ، الذي يلقي نفسه في المهالك ، أعني البراء بن مالك .
    والذي قال فيه المعصوم ، يوم رآه عن الدنيا يصوم : رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره ، فكان البراء لعين الإسلام قُره ، وباع نفسه من الله كل مرة ، قال الصحابة يا براء ، أقسم على رب السماء والغبراء ، على أن ينصرنا على هؤلاء الحقراء ، فأقسم على الله بالنصر ، وأن يكون أول قتيل بعد العصر ، ثم لبس أكفانه ، وودّع إخوانه ، فسل الحسام ، وفلق الهام ، وانتصر جند الإسلام .
    لك الله ما هذي الشجاعة في الوغى
    تقدمـت حتى هابت البيض والـقنا أأنت زحوف السيل أم أنت حيدره
    وصارت رماح القوم فيك مكسره

    الذي لا يحضر صلاة الصبح ، لا يطمع في الربح ، وليس بيننا وبينه صلح .
    تريد نصر الإسلام ، وأنت لا تحافظ على تكبيرة الإحرام ، مع الإمام ، هذه أوهام ، السلف الصالح ، والجيل الناصح ، أعطوا الإسلام الأموال والدماء ، فأصبحت هاماتهم في السماء ، وأنت ماذا أعطيت، وماذا لدِينك أهديت ، ولأمتِّك أسديت ، حي كَمَيْت ، عشت بين لعلّ وليت، وما دريت، بأنك في الخسار هويت .
    متى يستفق من عقله في غشاوة
    لقد خلف البازي فـينا حـمامةً
    ومطـلبه في هذه الأرض دينارُ
    وأصبح بعد الليث في دارنا فارُ

    قلبك من الذنوب مجروح ، ولا تبكي ولا تنوح ، كأنك جسد بلا روح ، ما أثّر فيك الوعظ ، وما فهمت اللّحظ ، وما ميَّزت بين المعنى واللفظ ، الحمام يبكي على الأغصان ، من فقد الخلاّن ، والغراب على البان ينحب ، وعلى الشجر يشغب ، لسفر أصحابه ، وبعد أحبابه ، وقلبك قاسي ، كما الصخر الراسي ، لا تدمع لك عين ، ولا يؤثر فيك الفراق والبَيْن ، ولا يردعك حياء ولا دِين ، الغراب قتل أخاه ، ثم ندم فواراه ، ودفنه وبكاه ، وأنت قتلت نفسك بالكبر والرياء ، وما منعك الحياء ، كأنك لست من الأحياء ، النملة أنذرت بنات جنسها ، فعادت إلى رَمسها ، تبقي لقوت يومها من أمسها ، وأنت تجاهر الواحد القاهر ، الباطن الظاهر ، بالكبائر .
    أمـا أتـاك من الرحمان موعظـةٌ
    مركوبك النعش ينسيك المراكب في
    ما قال في سأل منها وفي عبسا
    دنياك لما ركبت الأدهم الفرسا


    مالك في دنياك تتبلد ، وفي غيك تتردد ، وما فعلت كما فعل الهدهد ، سافر إلى اليمن وهو وحيد ، يدعو إلى التوحيد ، فعاد إلى سليمان ، بعد ما أعطاه الأمان ، فجاء من سبأ بنبأ ، وأنكر على بلقيس ، إذ زين لها إبليس ، تسجد للشمس ولا تسجد لمن أجراها ، وما أدرى الشمس عن الخليقة ما أدراها .
    فأصبح الهدهد داعية ، أذنه للحق واعية ، وقدمه في التوحيد ساعية ، وأنت هل دعوت أحدًا ، أو مددت للخير يدًا ، أو أسمعت الهدى بلدًا .
    الفيل وجّهوه لهدم البيت ، فنادى لسان حاله يا أبرهة ضللت وما اهتديت ، وظلمت واعتديت ، والله لا أنقل إلى البيت القدم ، وأموت هنا وكعبة الله لا تنهدم.
    وقفت حيـاء عند بابـك مطـرقاً
    فلو قطعوا رأسي لما سرت خطوةً
    ولم أنقل الأقدام من روعة الخجل
    أهذا جزاء الفضل من ربنا الأجلّ

    الفيل يلوي عن المعصية رأسه ، ويبرد عن المخالفة حماسه ، وأنت لا يردك عن الخطيئة باب ، ولا يحجزك عن السيئة حجاب .
    لا تستهِن به فإنه قوي ، ولا تمُنَّ عليه فإنه غني ، أهلك ثمود في ناقة ، وألحْق عاداً بالساقة ، عصته أمم فهز بهم الأرض هزّا ، ثم قال :  هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا  ، حطّم سد سبأ بفارة ، وأحرق إرم ذات العماد بشرارة ، ومزق أعداءه بغارة ، أعتق رقبتك من النار ، وأنقذ نفسك من البوار.
    هذا عثمان بن عفان ، سمير القرآن ، جهز جيش العسرة ، وأفطر على كسرة ، قرأ القرآن يومه ، وشرى بئر رومة ، وأنت تريد الجنة ، وصدقتك بالمَمنّة ، وقد هجرت السنة
    علي بن أبي طالب قدم رأسه للشبا ، وصار جسمه بالدماء مخضبا ، وذبح عدو الله مرحبا ، وأنت ما حضرت قتالاً ، ولا أنفقت مالاً ، وما ذقت في سبيله نكالاً ، نطالبك فحسب بالصف الأول ، ولا تلعب بالدين وتتأول ، ولا تأكل الحرام ومنه تتمول .
    هذا سكار النفس ليس يردها
    هل عندكم يا قوم ميثاق فلا
    عن غيها إلا فتى مغـوارُ
    تخشون أن يجتاحكم جبارُ

    ألّف البخاري لك الصحيح ، وجمع لك كل حديث مليح ، كان يصلي عن كل حديث ركعتين ، وعرض عليه كتابه مرتين ، ثم هجرت صحيحه ، ولم تقبل النصيحة ، أعرضت عن أصح المؤلفات ، وأقبلت على الصحف والمجلاّت .
    جمع أحمد المسند ، بالرأي المسدد ، والصدق المجرد ، والورع المجود ، طاف الدنيا على الأقدام ، من صنعاء إلى دار السلام ، فلما أصبح المسند لديك مطبوعاً ، مقروأً ومسموعاً ، جعلته في بيتك وسادة،وما فتحت جلاّدة ، ولا ذقت زاده .
    جزاهمُ الله عن دين الرسول فما
    لولا لطائف صنـع الله ما نبتت
    أحـلى مآثرهم في سالف الحقب
    تلك المكارم في لحم ولا عصب

    ألّف جرير ، كتاب التفسير ، وحرّره أيما تحرير ، فهو لكل مؤمن سمير ، وبكل نفع جدير ، فأغلقتَ عليه في زنزانة ، كأنك ما عرفت شانه ، ولا شكرت إحسانه ، واستبدلته بكتاب ألف ليلة وليلة ، وجعلته إلى اللهو وسيلة ، وللعب خميلة ، ولطلب الدنيا حيلة ، تغفل الآيات البينات ، والحكم البالغات ، والنصائح والعظات ، وتقبل على كتاب الأغاني ، للأصفهاني ، وهو فيما قال جاني .
    خف الله واحفظ ذا الزمان فإنه
    نهارك يا مغـرور سهو وغفلة
    سريع التـقضي مخلف الحسراتِ
    وليلـك يمضي في رؤى وسباتِ

    أسأل الله بالاسم الأعظم ، والوصف الأكرم ، فإنه الأعلم الأحلم الأحكم ، أن يهدي قلبي وقلبك ، وأن يغفر ذنبي وذنبك ، وأن ينير بالوحي دربي ودربك.

  9. #19
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــــة الـجـهـاديــــة



     مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ
    وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً 
    أيا رب لا تجعل وفاتي إن دنت
    ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة
    على مضجع تعلوه حسن المطارفِ
    يصابون في فج من الأرض خائفِ

    قال أبو شجاع ، محمد بن القعقاع : ما رأيت مثل الجهاد ، في سبيل رب العباد ، فيه تصان الملة ، ويدخل على الكفار الذلة .
    قلنا يا أبا شجاع : حدثنا عن بعض التحف ، من مواقف السلف ، في ساح الوغى ، يوم قاتلوا من بغى وطغى .
    فقال : كان المسلمون مع قتيبة بن مسلم في حصار كابل ، وكل ذاهل ، فأرسل إلى محمد بن واسع ، الإمام الخاشع ، فلقيه بجفن دامع ، وكف ضارع ، يشير بسبابته إلى السماء ، ويقول : يا سميع الدعاء ، عظم فيك الرجاء ، اللهم ثبت أقدامنا ، وسدد سهامنا وارفع أعلامنا ، فلما أخبروا قتيبة بما شاهدوا ، وأطلعوه على ما وجدوا .
    قال : والله لإصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف شاب طرير ، ومن مائة ألف سيف شهير . ثم بدأ القتال ، فنصرهم ذو الجلال ، وانهزم الكفار ، وولوّا الأدبار .
    قال : ولما حضر خالد لقتال الروم ، قدموا له قارورة مملوءة بالسموم ، وقالوا له : إن كنت متوكلاً على الله ولا تخاف ، فاشرب من هذا السم الزعاف . فقال : بسم الله ، توكلت على الله ، ثقة بالله ، ثم شرب القارورة ، فما مسه ضرورة .
    ولما رأى المسلمون جيش الروم ، وكثرة القوم ، قال أحد الناس ، لما رأى البأس : اليوم نلتجئ إلى جبل سلمى وأجّا ، قال خالد : بل إلى الله الملتجى .
    قال : ولما حضر المسلمون في تستر ، ما بين مهلل ومكبر ، قال المسلمون: يا براء بن مالك ، أقسم على إلهك ، عله أن يرزقنا النصر ، وعظيم الأجر . فأقسم على الديان ، فهزم الله أهل الطغيان ، وذهب البراء إلى الجنان .
    والبراء هو صاحب حديث " رُبَّ رجل أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره " فأبرّ الله قسمه وبلغه كل مسرّة .
    ثم قال أبو شجاع : اعلموا أن صرخات التفجع ثلاث ، سجلت أهم الأحداث .
    وهي : وا معتصماه ، وا إسلاماه ، وا أماه .
    فوا معتصماه : أطلقتها امرأة في عمورية ، بعد أن أهينت في البلاد الروميّة ، فسمعها المعتصم الأسد الهصور ، فترك القصور ، وخرج بجيش يمور ، فأذل أتباع نقفور ، وأخذ الكفور ، وجعله عبد للمسلمة التي صرخت باسمه من وراء البحور .
    وأما وا إسلاماه : فأطلقها قطز وبيده البتار ، يوم نازل التتار ، فهزم من كفر وولّوا الأدبار .
    وأما وا أماه : فهي صرخة مفجوعة ، وصيحة مقطوعة ، قالها طفل من الأندلس ، لما رأى أمه وهو في حضنها تختلس .
    فقال أبو البقاء يصف هذا الشقاء :
    يا رب أم وطفل حيل بينهما


    كما تفرق أرواح وأبدان

    أحب عبد الله بن عمرو الأنصاري " قل هو الله أحد " ، فهب إلى أُحد ، فقيل له : البينة ، على المدعي للمحبة ، فضرب في سبيل الله ثمانين ضربة .
    بعضهم هوايتهم منصب شريف ، أو قصر منيف . أما ابن رواحة ، فهوايته طعنة بسيف ، حتى قال :
    لكنني أسأل الرحمن مغفرةً
    وطعنة ذات قرع تقذف الزبدا


    يأتي الشهيد يوم القيامة وعليه علامات ، وآيات بينات ، والبراهين على عبد الله بن جحش واضحات ، ذهاب العينين ، وقطع الأذنين ، وبتر اليدين ، لأن لكل قضية شاهدين .
    كتبت بالدم آياتٍ مبيّنة
    شريت جنة فردوس منعمة



    يوم الوغى ودفعت الروح والبدنا
    أحضرت للسيف يوم المنحنى ثمنا

    أتى إلى مؤتة جعفر ، فتقدم وما تأخر ، وكان يوم الجماجم يتعثر ، ودمه يتقطر ، فضرب بسيفه في الكفار حتى تكسر ، فلما قطعت يداه ، وأسلم الروح إلى الله ، طاب وطاب مسعاه ، أبدله الله بجناحين ، يطير بها على الرياحين ، ويتنعم في الفردوس كل حين . كل يكتب اسمه بمداد ، إلا الشهيد فإنه يكتبه بدم في سفر الأمجاد . كأن الشهيد يموت مختارا ، وغيره يموت مضطرا .كل ميت يوضع المسك معه في الأكفان ، إلا الشهيد فإن دمه كله مسك يملأ المكان .
    تفوح أطياب نجد من ثيابهموا


    عند القدوم لقرب العهد بالدار

    آل سعد ثلاثة في العد ، أهل وعد وعهد .
    اهتز عرش الله لسعد ، ووجد ريح الجنة من دون أحد سعد ، وقال  في أحد " ارم فداك أبي وأمي يا سعد " .
    فالأول : سعد بن معاذ سيد الأنصار ، وقدوة الأبرار ، الذي ألحق باليهود البوار .
    والثاني : سعد بن الربيع ، المقدام الشجيع ، صاحب الموقف البديع .
    والثالث : سعد بن أبي وقاص ، كان مع النبي من الخواص ، أخذ من الفُرس القصاص .
    قتل عمر في المسجد بعد الفجر عندما غدت الطيور من وكورها ، لأن معلمه يقول " بارك الله لأمتي في بكورها "
    من كان مبتهجاً لمقتل شيخنا




    فليأت نسوتنا بوجه نهارِ

    يجد القلوب مفجعات كلها

    بالهم عند تبلج الأنوارِ

    وقتل علي في المسجد قبل الفجر ، لأنه وقت استغفار ، ونزول للغفار ، وجلسة للأبرار ، والرجل يحب الأسحار .
    يا ليتها إذ فدت عمراً بخارجةٍ


    فدت علياً بمن شاءت من البشرِ

    استحت خزاعة ، أن ترد الحوض يوم الشفاعة ، مزجيّة البضاعة ، فقدمت أحمد بن نصر ، الذي قتله الواثق في القصر ، فدخل الجنة بعد العصر .
    قال له الواثق : وافق . قال : لا يا منافق . حاول الواثق أن يجيبه ولو بإدغام فيه غنة فقال لسان الحال : الخداع ليس من السنة ، فذبحه بعد أن اشتاق إلى الجنة .
    اثنان تاجان عظيمان ، من قبيلة بني شيبان ، جاهدوا في سبيل الرحمن .
    ابن حنبل والمثنى ، وكل منهما لدينه تعنّى ، وللقاء ربه تمنّى .
    قدم المهاجرون أربعة خلفاء ، فقدم الأنصار أربعة قراء ، أهدت قريش مصعب بن عمير ، فأهدى الأنصار ابن الحمام عمير .
    تأخر أنس بن النضر عن بدر ، فجمع بين الغزوتين في جمع وقصر ، فقتل في أحد بعد الظهر .
    لما عذر الله عثمان ، يوم بيعة الرضوان ، علم الله صدقه فسعت إليه الشهادة إلى الديوان .
    أبو بكر صدَّيق ، والمخطوطة لا تحتاج إلى تحقيق ، والرجل غنيٍ عن التوثيق ، فلم يقتل لأنه أخذ حكم الرفيق .
    السلام على الشهداء ، فهم عند ربهم سعداء .

  10. #20
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــــة الـزهـديَّـــــة



    (( كـن في الدنيـا كأنك غريب أو عابـر سـبيل ))
    أرى أشقياء الناس لا يسأمونها
    أراها وإن كانت تسر فإنها
    على أنهم فيها عراة وجوّع
    سحابة صيف عن قليل تقشّع

    قال سعيد بن أدهم ، ركبت الأدهم ، وذهبت إلى السلطان أطلبه في درهم ، فوضع في رجلي الأدهم ، فمر بي الزاهد علي بن دينار ، وهو أحد الأبرار ، فقال لي مالك يا سعيد ، أراك في الحديد ، فقلت : والله الولي ، ما سرقت يا علي .
    قال : فما الشأن ؟
    قلت : أتيت السلطان ، أطلب الجود والإحسان ، فوضعني في هذا الهوان .
    فقال : أف عليك وتف ، ومن التراب استف . تطلب السلطان ، وتنسى الرحمن ، تسأل البخيل ، وتترك الجليل ، تباً لك ، أفي قلبك شك ، تأتي من أغلق بابه ، وأسدل حجابه ، وحرم أصحابه . وتترك المعبود ، الذي ملأ العالم بالجود ، وأغدق على الخلق العطاء الممدود .
    قلت : يا علي غلطت غلطة ، وسقطت سقطة ، وتورطت ورطة ، ووالله لئن فرّج الله عني ، وفك هذا القيد مني ، لا آتي بشرا ، ولو طلب مجيئي بشراء ، ولا أقصد الصعلوك ، بل أقصد ملك الملوك ، فلما أطلقني من الحبس ، وعادت إليّ النفس ، تركت باب الأمير ولزمت بيتي على خبز الشعير . فعاد لي لبي ، وجعل الله غناي في قلبي ، فوالله إني أرى المترفين في حسرة ، وإن ملك كسرى عندي ما يساوي كسرة . فأنا بين المسجد والبيت أرضى بالقوت ، لا مال يفوت ، ولا ولد يموت ، ليس عندي بنـز ، ولا كنـز ، ولا أرز ، ولكن عندي دين وعلم وعز ، فأنا أسعد من كسرى أنو شروان ، إذا حف به الخدم في الإيوان ، وأنعم عيشاً من النعمان ، فأنا أسكن الكوخ ، وآكل العدس المطبوخ ، لا ألبس الجوخ ولا آكل الخبز المنفوخ . ليس عندي دار ، ولا عقار ، ولا حمار ، ولا دينار .
    أنام بلا هموم ، وأبيت بلا غموم ، لا أعرف عَدّ المال ، ولا شد الجمال ، ولا مبايعة الرجال ، لا أعرف الريال من القرش ، ولا أميّز بين الكنب والفرش ، معي قميص ، وبطن خميص ، لا أعرف الكبسة ولا الخبيص ، ما يأتيني في النوم كوابيس ، ولا أشعر في النهار بالهواجيس .
    فأنا أسعد من رأيت ، وأنعم من لقيت .معي كتاب ، أغناني عن الأصحاب ، وسلاني عن الأحباب . معي ملحفة للمنام ، وجفنة للطعام ، وعصا للقيام . لا أخاف على نفسي العين ، ولا يطلبني أحد بدين ، ولا أسأل مال هذا من أين ؟
    فأنا خفيف الظهر ، دائم البشر ، قليل الوزر ، ما بعت ولا شريت ، ولا اكتـريت ولا اقتنيت ، لا أخشى سقوط بيت ، ولا ذهاب مَيْت. نجوت من الضغط والسكر ، لأنني في غير الآخرة لا أتفكر ، في قلبي عيادة السعادة وفي صدري بنك السرور ، ومصرف الحبور ، وعندي علم وإيمان ونور على نور ، أعجب من الفجار والتجار ، وأقول ما هذا الشجار . أتقتتلون على جيفه ؟ ما تساوي قطيفة ، سحقا لعقولكم السخيفة .
    أين كنوز قارون ؟ أين ما مضى من القرون ؟ أين ما جمعوا ، وأودعوا ، وشيدوا وأبدعوا ؟ لا قصور ، لا دور ، لا أنهار ، لا أشجار . ذهبت الأبدان والأرواح . وبلي القفل والمفتاح . فصدقني ما عاش عيشتي هارون الرشيد ، ولا الكاتب عبد الحميد ، ولا الرئيس ابن العميد ، نفسي والحمد لله رضية ، وعيشتي هنية ، وقد نجوت من كل بلية ، فأنا لا طالب ، ولا مطلوب ، ولا أخشى من كنـز منهوب ، ولا من مال مسلوب . ولا أقف على الأبواب ، ولا أتمرغ على العتاب ، وما قبلت يد كذاب ، طمعا في طعام وشراب ، وما قلت للكلب يا سيدي ، ويا عضدي ، ويا مؤيّدي :
    واعلم بأن عليك العار تلبسه
    من عضة الكلب لا من عضة الأسد

    وأحيانا أجلس أمام كوخي وسقفي السحاب ، ومخدتي صبرة من التراب ، وجليسي الكتاب . فوالله إنني أطيب عيشاً من الناصر في الزهراء ، وسيف الدولة في حلب الشهباء ، ما استذلني متكبر ، ولا مَنَّ علي متجبر ، ولا نهرني متهوّر :
    أنا لا أرغب تقبيل يد
    إن جزتني عن صنيعي كنت في
    قطعها أحسن من تلك القبل
    رقها أو لا فيكفيني الخجل

    ثم إن هناك مصلحة لي في هذا الزهد ، وهو السلامة من الجهد ، يوم تنصب الموازين وتكشف البراهين ، فلن أقف طويلاً للقضاء ، كما يقف الأغنياء ، وكفاك بهذا حسنة ، لحديث (( يدخل فقراء أمتي الجنة ، قبل الأغنياء بخمسمائة سنة )) ، فياله من مكسب رابح ، ومن ميزان راجح ، وما عندي مال في البنوك الربويّة ، ولا مساهمات عقارية ، ولا شركات استثمارية ، بل عندي أغلى ، وأعلى ، لأن البر لا يبلى . فإذا كنـز الناس الدرهم والدينار ، كنـزت الأذكار ، وعمل الأبرار ، وأنا أخذت بُغْض الدرهم ، من إبراهيم بن أدهم ، والزهد في الدينار ، من مالك بن دينار ، والورع عن العطاء ، من ابن أبي رباح بن عطاء ، وأخذت قلة الرغبة من الدنيا ، من ابن أبي الدنيا ، وقد رأيت القبور ، فإذا المعظم بجانب المحتقر ، قد اجتمع بها المخبر ، والخبر ، وتغيرت بها تلك الصور ، فالـمَلِك في جوار المملوك ، والغَنِيُّ في حفرة الصعلوك ، والقَوِيُّ مع الضعيف ، والوضيع مع الشريف فبعد هذا المشهد ، أقسمت أن أزهد ، فلزمت المصحف والمسجد ، أتعبد وأتهجد ، وعلى المقابر أتردد ، فعوضني ربي بالهم سرورا ، وبالحزن حبورا ، وبظلمة الدنيا نورا ، وقد هيأت حنوطي وأكفاني ، وكفاني القليل كفاني .
    وهذا والله عين العقل ، وموافقة النقل ، ونهج الصالحين من بعد ومن قبل ، فمال للقوم كأنهم في نوم ، صرعتهم الشهوات ، وزلزلتهم الشبهات ، أحبوا التراب والخراب ، والثياب والشراب ، وزهدوا في الكتاب والثواب ، ونسوا الحساب والعقاب ، أنساهم القرش النعش ، في التهام وهرش ، ما تهزهم الرقائق ، ولا تردعهم الحقائق ، كلامهم في الأسعار والعمار والعقار ، وحديثهم عن الدرهم والدينار ، ما يذكرون الجنة ولا النار .
    الجلوس معهم يميت القلب ، ويضاعف الذنب ، لكن الأعمى لا يرى الصباح ، والميت لا يحس بالجراح . ولكن الصخر لا يسمع الكلام ، وما لجرح بميت إيلام .

صفحة 2 من 7 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. اطلب ثوابك من ربك د. عائض القرني
    بواسطة عزتي احرقت جمر الاشواق.. في المنتدى المنتدى الاسلامي العام
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 23-12-2010, 08:05 AM
  2. الشيخ عائض بن عبدالله القرني
    بواسطة القيصر السليطي في المنتدى المنتدى الاسلامي العام
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 12-04-2010, 12:53 AM
  3. حسرات للشيخ عائض القرني
    بواسطة زهر الربيع في المنتدى المنتدى الاسلامي العام
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 13-02-2010, 12:25 AM
  4. لا تحزن للدكتور عائض القرني
    بواسطة رنين الاصوات في المنتدى المنتدى الاسلامي العام
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 11-02-2010, 09:19 AM
  5. خواطرللشيخ عائض القرني
    بواسطة Full MooN في المنتدى المنتدى الاسلامي العام
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 08-03-2009, 12:12 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
معجبوا منتدي احباب الاردن على الفايسبوك