خطبة الجمعة 5/2/2010 – حسن الخلق
عبدالرحمن أبوعوض
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ؛ أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً وأكرمهم وأتقاهم ، فعن أنس رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا " ،
وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت : " ما رأيت أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، والله عز وجل قال : مادحاً نبيه صلى الله عليه وسلم : { وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ
عَظِيمٍ }[ القلم 4 ] ، وقالت عائشة لما سئلت رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام ، قالت : " كان خلقه القرآن " صحيح مسلم .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجيةً له وخلقاً .... فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه ، هذا ما جبله الله عليه من الخُلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خُلقٍ جميل .
والخلق الحسن يكون مع الخالق ومع المخلوق ، أما مع الخالق
فيكون بتلقي أحكامه الشرعية بالرضا والتسليم ، وأن لا يكون في نفسك حرج منها ولا تضيق بها ذرعا ، فإذا أمرك الله بالصلاة والزكاة والصيام وغيرها فإنك تقابل هذا بصدر منشرح ، وأما مع المخلوق ، فصوره كثيرة ككف الأذى والصبر عليه ، وطلاقة الوجه وغيره ، وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة مع الناس ، مع أعداءه ومع أصحابه ومع أهله
قال صلى الله عليه وسلم : " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " سنن الترمذي .
والأمثلة على خلقه صلى الله عليه وسلم كثيرة ، فقد كان يعرف في الجاهلية بالصدق والأمانة ، ولما نزل عليه الوحي وهو يتعبد في غار حراء ، ثم نزل إلى أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها قالت له : " كلا والله ما يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق " .
ومن أبرز المواقف التي ظهر فيه خلقه العظيم صلى الله عليه وسلم وهو يدعو الناس بصبر وثبات ، وهم يؤذونه ، ويرفضون دعوة الحق ، وهو يواجههم بالدعاء والحلم والعفو والصفح عنهم ، لذلك لما ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وهي تبعد عن مكة نحو ستين ميلًا ( أكثر من 90كم ) ، سارها ماشيًا على قدميه جيئة وذهوبًا ، ومعه مولاه زيد بن حارثة ، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام ، فلم تجب إليه واحدة منها .
ولما وصل - أي إلى الطائف - أخذ يدعوهم إلى الإسلام ، ولا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه ، فقالوا : اخرج من بلادنا ، وأغروا به سفهاءهم ، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس ، فوقفوا له سِمَاطَيْن [أي صفين] وجعلوا يرمونه بالحجارة ، وبكلمات من السفه ، ورجموا عراقيبه ، حتى اختضب نعلاه بالدماء ، وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شِجَاج في رأسه ، ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلاثة أميال من الطائف ، فلما التجأ إليه رجعوا عنه ، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُبْلَة من عنب فجلس تحت ظلها إلى جدار، فلما جلس إليه واطمأن ، دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على امتلاء قلبه كآبة وحزنًا مما لقي من الشدة ، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد ، قال : " اللهم إليك أشكو ضَعْف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يَتَجَهَّمُنِي ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو يحل علي سَخَطُك ، لك العُتْبَى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " ... ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة كئيبًا محزونًا كسير القلب ، فلما وصل إلى مكان يقال له : قرن المنازل بعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال ، يستأمره أن يطبق الأخشبين ( جبلا مكة ) على أهل مكة .
فكان جوابه صلى الله عليه وسلم أن قال : " بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا " .
ولا شك أن هذا الموقف منه صلى الله عليه وسلم بدل على خلقه العظيم ، الذي لا بد أن ننظر إليه جميعاً ، ونتعلم منه صلى الله عليه وسلم ، فنتأسى به ونسير على هديه كما قال الله عز وجل : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ( 21 ) } .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى ، أما بعد :
فإن الأخلاق كما رأينا كانت منه صلى الله عليه وسلم حتى في أصعب الظروف ، وحتى وهو يواجه أعداءه ، فكان صابراً عليهم ، همه الدعوة إلى الله عز وجل ، وكان أيضاً مع أصحابه رضوان الله عليهم كذلك ، ومن أراد معرفة المزيد من صور حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ، فما عليه إلا أن ينظر في هديه وسيرته صلى الله عليه وسلم ، لكن أين نحن من هذه الأخلاق اليوم ؟! لماذا ابتعدنا عن هذه الأخلاق كثيراً؟! فبدل الحلم ظهر الغضب ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل فقال له أوصني : قال : " لا تغضب " ، فكررها مراراً ، قال : " لا تغضب " ، وبدل الرفق في التعامل مع الناس ، فإننا نفتقده ، وبدل الصدق ، نرى الكذب ، وبدل احترام الزوجة ، نرى إهانتها ، وبدل الحشمة ، نرى السفور ، وغير ذلك من الأمور ، والصحيح أنه علينا أن نراجع أنفسنا ، ونرجع إلى دين الله عز وجل ونتمسك بالأخلاق الحميدة ، فنكون من أهل الخلق والتقوى ، ونتشبه بهم ، ولله در الشاعر حين قال :
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
المفضلات