وهاهي الأيام تمضي بمضي عمر الانسان.. وصرت ارى مكان الكتب مجموع أدوية ومهدئات .. مرض ذاك الغلام مرضا شديدا أرقده الفراش امدا.. ولولا جار من جيران العمارة تكفل بطبه وعلاجه بأمر من رب العباد.. لكان حاله كما حال المجهول.. المشرد.. المعدم الهوية.. المسروق الحنان.
أينكي ايتها الخادم.. ياليتني أخذت منكي العنوان.. أهكذا تسمحين في حال وتنسين عشرة سنين وأعوام..
وهاهو الربيع يفرش بساط زهره على وجه الخليقة والانام.. بقدومه ازينت الدنيا.. ضحكت الافواه وغنت الالسنة اعذب الترانيم بألحان..
وأنا أحمل ورقة وأخط هذا الكلام.. اذبتلك الخادم تعاود الزيارة وتقصي الحال والمحال..
انتظرن خروجها بفارغ صبر لزمن يزيد عن الساعتين.. وهاهي تغادر المكان لتجدني في انتظارها.. يا الهي وكأني لعبت دور المحقق دون استئذان..
تأملت ملامح وجهي لبرهة.. ابتسمت معها رغبة مني في اخماد نار تعجبها للحظة.. وها أنذا اسلم عليها .. سائلة عن حالها .. حال العائلة وكل من جاء ببالي حتى استوقفت لساني وأنا اراه مسترسلا في الكلام..
قالت أنا بخير وأحسبك الفتاة التي التقيتها مذ شهور.. اي وربي مذ زمان..
قلت أنا هي.. ولا تملكين اليوم اي حجة.. هاهي تلك غرفتي.. نافذتي ترديكي السلام.. فلتتقبلي اليوم ضيافتي ولن أرض بغير زيارة.. حتى لو استمرت وقتا قصيرا.. حسبي منكي ومنها تلاشف فنجان قهوة وتبادل اطراف الكلام.. ابتسمت في وجهي قائلة.. قبلت الدعوة على أطيل البقاء.. وهانحن نجلس على شرفة تلك النافذة.. سألتها عن الغلام.. لتخرج تنهيدة من اعماق النفس وتتكلم على لسان ذاك الانسان..
"انا فلان ابن فلان.. فتحت عيناي على هاته الدنيا ولم أجد بجانبي غير رداء يقيني قر شتاء.. فأبي راح شهيدا قبيل ولادتي بأشهر.. وأمي لفظت أنفاسها الاخيرة بولوج أنفاسي هذا العالم.. لم أعرف للوالدين حنانا..ولم أغبط لهاته الدنيا أمانا.. وقد اعتبرت خادم أمي.. أبـــي وأمــــي.
أبي كان ميسرا متيسر الحال والمحال.. فقد امتلك من الأراضي وحب التجارة والمتاجرة الكثير..الشيء الذي صنع له مكانة عظيمة بين اصحاب المال والجاه..
كنت صغيرا.. وبوفاة ابي استحوذ عمي على ثروته.. ليتحول من مزارع بسيط الى تاجر وضع له وبدل الحساب الف حساب.. من شدة جشعه تركني مع الخادم التي اسميتها أمي.. أسير تقلب أيام..
اشتغلت أمي ببيوت الناس والجيران.. أطعمتني.. ألبستني.. أحبتني حبا عظيما و حنت علي حنوا كبيرا..
لحق عمي بمركب الأموات بعد ان اشتد عظمي.. وقد ترك وصية قبيل وفاته مخاطبا زوجته فيها.. 'لقد ظلمت ابن اخي في حياتي.. ولا اريد تحمل ازره في مماتي.. أحضريه الى بيتنا وليكن الرجل بعدي.. عامليه معاملة حسنة.. علني اكفر بها عن ذنبي'
وها نحن ننتقل للعيش في قصر كما قصور الملوك ضخامة.. بل برؤيته تملكني حس.. اعتقدت انني بطل من ابطال قصص امي الليلية بهاوة..
وكان لعمي فتاة تصغرني بعام.. كنا نقضي اليوم بطوله نجول ونتجول في انحاء المعمورة وأطراف الشوارع.. لم نترك بيتا الا وطرقنا بابه.. ولا عصفورا الا وولجنا اعشاشه.. أنست بها انس الأخ بأخته.. أحببتها حبا شديدا.. فكان لايرانا الرائي الا ذاهبين الى المدرسة او عائدين منها.. أو نحل الغاز السحاب أو نروي قصص الأصحاب.. أو مجتمعين في غرفة نستشعر حروف الكتاب..
فقد كانت بريئة براءة الأطفال.. شدية شداوة عطر الأحلام.. أتممت دراستي دونها .. لكنها كانت بجانبي أينما احل.. على ضفاف بحيرة.. تحت ظل شجرة.. فقد عقد الود بين قلبينا عقدا لا يحله الا ريب المنـــون..
لم أكن أعلم طبع حسي اتجاهها.. لكنني كنت أعلم أن ذاك الشيء المضمر.. يبقى بلا أمل.. بلا رجاء.. فأمها لن تحنو بها على بائس مثلي.. هذا ان صارحتها..والموت أهون علي من أكون أول فاتح لجرح في قلبها.
كان الفصل خريفا.. وبينما كنت أتأمل حال الطبيعة المتقلب من على نافذتي.. اذ بباب غرفتي يطرق.. واحسبها أمي.. قابلتها بابتسامة.. فاذ بوجهها مكتئب حزنان.. وفي عينيها كلام بألف استفهام..
قالت.. سيدة الكلام ترديك السلام.. وتقول.. ابنتي صارت صبية وقد نويت تزويجها.. وأنت تعلم ان الخاطب لا يطرق بابا مريبا.. قلت.. ماتقولين برب السماء؟ أكملت الحديث.. قالت.. سأشتري لك بيتا في أطراف المدينة وليكن بيتك.. و اتكفل بجمبع مصاريفك..
هنا اسودت الدنيا بوجهي.. ولم اشعر بحالي الا مرتميا جاثيا على ركبتاي أعانق حضن أمي.
حملت حقيبتي وأنا اتمتم قائلا.. ابنة عمي هي.. رفيقة طفولتي وصبايا.. فلا أحب علي من رؤيتها سعيدة .. هانئة في عيشها حالمة في حياتها.. وقد انسللت انسلالا لم يشعر أحد بم كان به.. عدا امي.. فكان اخر عهدي ببيت قضيت فيه اسعد ايام حياتي رفقة تلك الاميرة النائمة.. لأتوجه الى هذا اعالم وحيدا.. معانقا حياة البؤس من جديد.. "
.... ....
....
المفضلات