المقـامَــــة الـمـدنـيّــــة
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ
أمر على الديار ديار ليلى
وما حب الديار شغفن قلبي
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
ولكن حب من سكن الديارا
لما وصلنا المدينة ، والنفس لمن في الروضة مدينة ، قلت : سلام يا طيبة ، لما رأيناك ذهبت الخيبة . لحبك أيتها الدار ، سال الدمع المدرار ، لمن ندخر الشجون ، لمن نخبئ الدمع الهتون ، هذا وقت البكاء يا محب ، هذه لحظة الشوق يا قلب .
المدينة تنفي خبثها ، وينصع طيبها ، ويطمئن ساكنها ، ويرتاح حبيبها .
لما رأينا الربع سال دموعنا
أنا لست أذكر ربع من قتل الهوى
شوقاً لساكنه ومن يهواهُ
لكن أرتل ذكر من أحياهُ
إذا أتيت طيبة ، فأعط قلبك من التذكر نصيبه ، هنا المحراب ، حيث كان يصلي فيه من أُنزل عليه الكتاب ، هنا المنبر ، فتذكّر يوم كان يرقاه صاحب الجبين الأزهر ، هنا المسجد ، فالشوق يتجدد ، إذا علم أنه مصلى محمد ، هنا الروضة الخضراء ، يرقد بها من جاء بالشريعة الغراء ، هنا أُحُد جبل يحبنا ونحبه ، وهنا قباء يؤنسنا قربه ، المدينة هي محط موكب النبوة ، وبها كان للإسلام قوة ، منها سطعت شمس السُنّة ، وفيها تمت المنة ، وهي المدينة التي نصرت المختار ، بسيوف الأنصار ، بها حكم الشيخان ، وولد السبطان ، وعاش السعدان ، وترعرع الزيدان ، وأنشد الشاعران ، كعب وحسّان .
إذا دخلت المدينة فتذكر صاحب الملّة السمحاء ، والطريقة البيضاء ، هنا مسكنه ومنامه ، وممشاه وقيامه ، ورمحه وحسامه ، وشرابه وطعامه .
من المدينة خرج لبدر بجنوده ، وزحف إلى أحد في حشوده ، ومن المدينة بعث للملوك رسائله ، وعلم الناس فضائله . هي بيت ضيافته ، ودار خلافته ، في كل مكان منها له ذكريات ، وفي كل موضع له علامات .
قبل القلب على سفح اللوى
تنشد الربع وهل يخبرها
واقفات راجفات ماثلات
دارس فيه جلال الذكريات
المدينة تذكرك ببكاء أبي بكر في الصلاة ، وورعه وتقواه ، لو وضع الصخر على بساطه لكاد أن يذوب ، ولو زجر الشيطان بنصحه لأوشك أن يتوب . جمع الفضائل كأنه يسوقها بعصاه ، وحبُّ له في القلوب فلو أشار للجيش هيا إلى الموت ما عصاه .
والمدينة تذكرك بالدولة العمرية ، وتلك المناقب الأثرية ، عدل صار في العالم قصة ، وترك في حلق كل جبار غصة ، وزهد يقول الزهد : لا نستطيع معك صبرا ، وورع يقول له القلب : لا نعصي لك أمرا ، عمر بن الخطاب ، سل عنه المحراب ، بكاء فيه وتفجّع ، ونحيب وتوجّع . وإذا بصاحب هذه الدموع الآسرة ، يهز بهيبته القياصرة والأكاسرة ، معه بردة مرقعة ، وحذاء مقطّعة ، ثم تخفق قلوب الملوك على وقع حذائه ، وينام العدل على طرف ردائه .
والمدينة تذكرك بالوقفات الإيمانية ، في الحشايا العثمانية ، والمعاهد العفانية ، طهر يغتسل في نهره ماء الغمام ، وحياء يصيد بوداعته ورق الحمام ، وسخاء تضرب به الأمثال ، وتعجز عن مجاراته الرجال .
والمدينة تذكرك بسيف الله المنتضى ، وعبده المرتضي ، علي بن أبي طالب أبي الحسن ، الخطيب اللسن ، ناصر الدين والسنن ، بطل الأبطال حيدره ، هازم الكفره ، وصاحب السيرة العطرة .
ما هزني ذكر أشجان وأطلال
لكن هنا المجد والتأريخ قد جمعا
أو خيمة عرضت أو معهد بالي
فاكتب بدمعي آهاتي وتسآلي
إذا قالت روما : عندنا من الملاحم فصول ، وقالت باريس : عندنا ديقول، وقالت لندن : عندنا العالم المأهول ، فإن المدينة تقول : عندنا الرسول .
حي دار الهجرة ، وميدان النصرة ، وأرض الشهداء ، وجامعة العلماء . في ثرى المدينة سيد الشهداء ، حمزة المقدام ، وغسيل الملائكة الكرام ، ومن كلَّمه الرحمن ، وحفظة القرآن ، وزيد بن ثابت إمام الفرائض ، وحسّان بن ثابت شاعر الردود والنقائض، وأُبي بن كعب صاحب الذكر الحكيم ، وفيها من اهتز له العرش العظيم .
في المدينة ذكرى أبي ذر ، وهو يقول الحق المُر ، يدفع الباطل بزنده ، ويرد الدنيا بزهده ، وفيها ذكرى بلال وهو يرسل صوته في سماء الوحدانية ، وفضاء العبودية ، ومعناه تعالوا إلى ربكم أيها العباد ، وذروا الجاه والأموال والأولاد .
وذكرى أنس بن مالك خادم رسولنا ، كلما قيل : من لهذا العمل ؟ قال : أنا ، فينال بشرف خدمة المعصوم ، ما لا يناله أشراف أهل الدنيا لجلالة المخدوم ، وذكرى سعيد بن المسيَّب ، الولي المقرَّب ، ينهل الناس من مورد علمه ، ويعب العباد من نهر فهمه . وذكرى مالك بن أنس ، إذا تربع على كرسي العلم وجلس ، فكأن مجد الدنيا اختصر في تلك الساعة ، يوم تجتمع عظمة العلم وعظمة الطاعة .
وأعظم منقبة للمدينة أن رسول الله يسكن في سويداء قلبها ، ويستولي على حبِّها ، وهذا سر مكانتها وقربها . يكفي المدينة فخراً ، أن أجلّ البشر ، وسيد البدو والحضر ، شرب ماءها ، واستنشق هواءها ، وارتدى سماءها ، وصافح ضياءها .
يكفى المدينة جلالة على مدن المعمورة ، تلك المناقب المأثورة ، وأجلّها مشي الحبيب على ثراها ، وتنقله بين قراها ، كلما طافت عينك على رباعها ، وهام قلبك في بقاعها ، ناداك منادي الذكريات ، يقول للأحياء والأموات : هنا محمد سجد، هنا محمد قعد ، هنا محمد رقد ، جلس في هذا المكان ، عبر هذه الوديان ، هرول في هذا الميدان ، نظر إلى هذه الجبال ، رقى هذه التلال ، شرب من هذا الماء الزلال ، زار هذه الدار ، نام تحت هذه الأشجار ، مضى من فوق هذه الأحجار .
في الدار أخبار يكاد حديثها
شوق فلو أن الحجارة حملت
يدع الفؤاد وما له سلوان
ما في الحشا لتصدع الصوان
يا أيتها النخيل الباسقات ، ربما مر بكن صاحب المعجزات، والصفات الباهرات ، فهل من حديث يستفاد ، وهل من ذكريات تعاد . إن كنت تمدح المدينة بسمو قصورها، وارتفاع دورها ، وعظمة جبالها ، وكثرة تلالها ، فقد غلطت في الثناء ، وقصّرت في واجب الوفاء ، إن للمدينة أسرارا ، وإن لها أخبارا . المدينة تخاطب القلوب قبل العيون ، وتستشير الدفين من الشجون ، لأن ترابها يحتفظ في ذاكرته بمشاهد تذوب لها الأرواح ، ولا يمحوها مرور الرياح .
ابك الديار وإلا فاندب الدارا
لا تبخلن بدمع سوف تنفقه
فإن في القلب أخباراً وأسرارا
إن شئت غصباً وإلا شئت مختارا
على ترابها آثار أقدام المختار ، وبصمات تنقله في تلك الديار ، وعلى ثراها دموع الأبرار ، ودماء الأخيار ، وفي سماءها تسبيحات المهاجرين والأنصار .
للمدينة صفحتان : صفحة الفرح ، وصفحة الأحزان .
فصفحة الفرح بها معالم النبوة الطاهرة ، وتلك الانتصارات الباهرة ، نفرح إذا ذكرنا بركات الرسالة ، ومواقف التضحيات والبسالة ، ونفرح إذا عشنا المعاني الإيمانية ، والنفحات الروحانية ، والمشاهد القرآنية ، ونفرح إذا تذكرنا كيف انتصر الحق المبين ، ودفع الباطل المهين ، وكيف استقبلت تلك القلوب أنوار الهداية ، وكيف انتهى الكفر إلى غير رجعة هذه النهاية .
ولكننا نحزن يوم فارق الحياة أكرم الأحياء ، ويوم انتقل إلى دار البقاء أجلُّ الأتقياء ، ونحزن لموت الصدّيق ، صاحب العهد الوثيق ، ونحزن إذا ذكرنا عمر الفاروق وهو بالخنجر يمزّق ، ودمه على ثيابه يتدفق ، ونحزن يوم ذُبح عثمان ، بسكين العدوان، نحزن إذا ذكرنا ذهاب ذاك الجيل القرآني الفريد ، وذاك القرن المبارك المجيد ، وتلك الطائفة الزاكية الراشدة ، وتلك الجماعة الخيّرة القائدة .
فصلى الله وسلم على من تشرّفت به تلك الأرض ، صاحب المقام المحمود يوم العرض ، عليه الصلاة والسلام ، ما هب نسيم الأسحار ، وسرى حديث السمار ، عليه الصلاة والسلام ، ما تمتم ماء ، وهبّ هواء ، وشعّ ضياء ، وارتفع سناء ، عليه الصلاة والسلام ، ما حنّ إلف ، وأومأ طرف ، وما ذرّ شارق ، وما لمع بارق ، ومادام سعد ، ودوى رعد ، وحل وعد ، وحفظ عهد ، عليه الصلاة والسلام ، ما خط قلم ، وزال ألم، ودامت نعم ، وزالت نقم ، وعلى آله وصحبه الكرام ، مادام في الأرض إسلام ، والسلام.
المفضلات