لقمة الخبز مغموسة بالشقاء والحب
كعادته استيقظ متعبا هالكا قبّل يدي والدته وتناول قطعة الخبز مغموسة بالزيت مع كاس من الشاي .. لبس جاكيته الذي أكل الزمان عليه وشرب وابتدأ يومه بذهابه إلى المدرسة كانت قطرات المطر تفيض عليه السعادة والهناء وبنفس الوقت تنقله للكآبة والإحباط فلابد من الدفء في الشتاء ووضعه يرثى له لقلة المادة لديه كان يظل دائما سرحانا متأملاً في حياته المضنية هو وعائلته يفكر بحل لنقلهم من الفقر والقلة إلى العيشة الرضية ... في هذا اليوم كان المعلمين قد جهزوا مجموعة من الألبسة لتقديمها للطالب الفقير بهجة بالعيد أُحرج كثيرا وتمنى أن لا يكون من ضمنهم لأنه كان ذو عزة نفس عالية ... ولكنه كان بأول القائمة ... بداية رفض أن يستلم أي شيء بحجة انه مقتدر وليس بحاجة ولكنه فكر قليلا في وضعه وإخوته وعزم أن يضغط على نفسه ويهمش العزة قليلاً ويستسلم للأمر الواقع ... كم كان محرجا ومنزعجا فقد تحمل مسؤولية عائلته الكبيرة بعد وفاة والده المريض الذي لم يترك لهم إلا قليلا من العفش المتعثر ... فقد كان المرض مسيطرا عليه ولم يستطع تامين مستقبلهم الغامض ... انتهت المرحلة الأولى من يومه وأكمل المشوار بذهابه إلى السوبر ماركت الذي يعمل بها فبدا عمله الشاق إلى أن سمع أذان العشاء .. توضئ وأقام فرض الله تعالى وتوجه مسرعا وفرحا إلى البيت هتف إحدى إخوته ما تحمل لنا يا أخي من هدية قال ألبسة جديدة للعيد ولتزيل عنكم برد الشتاء فرحوا كثيرا وقبَّلوا أخيهم الذي لم يكمل الثامنة عشر ة من عمره ... ذهبت أمه لتحضر العشاء جلست تبكي بشدة دون أن تلفت انتباه أبناءها الصغار لكي لا تعكر صفو فرحتهم ... أحضرت الطعام المتواضع لابنها امجد وتناوله بهناء ورضا .. كانت تحدق في وجهه الذي أضحى كالوردة الذبلانة الباهتة وتصرخ بنواح داخل صدرها وتردد لم يهنئ بطفولته وشبابه تحمل عبئا كبيرا وأقرانه يلعبون ويمرحون ويتمتعون في شبابهم .. إلى متى سيبقى طاويا صفحة السعادة ... كان وقتها يضحك ويلاعب إخوته الصغار .. وبعدما أحسّ بالتعب والإرهاق تناول كتبه ودرس .. جاءت والدته بعد حين ووجدته غارقا بنومه فغطته لينام بدفء .. كان كل يوم على نفس المنوال يصحو مبكرا ويعمل ويرجع عشية متعبا .. وبعد مرور عدة أشهر كانت نتائج التوجيهي تطرق الأبواب .. لقد كان متفائلا بنجاحه فهو الأذكى في صفوف المدرسة رغم ما يعاني من قلة راحة البال .. أحرز مرتبة جيدة من التفوق ونورت زغرودة أمه الحياة بنجاح ابنها البارّ وكان يومهم مليئا بالسرور والفرح .. وليلة قبل نومه فكر مليّاً بمستقبله وبما سيحصل له لاحقا كان يسال نفسه هل سأكمل دراستي؟ لكن كيف ومن أين ؟ كان محبا للثقافة وطلب العلم حتى غشاه النوم الطويل .. فكرت أمه بالبحث جاهدة عن عمل تحصل منه على قوت يومهم وتامين ابنها المتفوق بالدراسة بالجامعة .. حتى وجدت ابسط ما يكون من العمل آذنة في إحدى المدارس .. فرحت وحلقت عالية لأنها سوف تريح ابنها قليلا من جحيم الحياة وتراه شابا متعلما يصحو للذهاب لجامعته .. هكذا كان حلمها .. اقبل امجد ووجد الابتسامة الغريبة على وجه أمه البائس .. فقالت له ما حصل معها .. ففزع مما قالت .. ورفض بشدة والجدية تملئ وجهه لن تعملين يا أمي أنا هكذا قدري .. صاحت أمه باكية كفاك إرهاق يا ولدي لقد شربت من كاس الوهن والتعب والحزن كثيرا آن الأوان لترتاح وتركب سفينتك المضيئة لتنير مستقبلك الزاهر .. وخيم عليهم البكاء الغزير وارتمى بحضن والدته حائرا باكيا والصغار ينظرون ويبكون .. كان يوم بائس بدا بالسرور وانتهى بالبكاء .. قد عزم امجد أن يجد عملا يفيض عليه المال ليدرس ويكمل مشواره بالصرف على عائلته .. ومنذ الصباح الباكر غرد في أزقّة المدينة للبحث عن عمل وبعد جهد جهيد وجد ما يبحث عنه لكن هذه المرة عمل شاق وساعاته طوال لكن مردوده جيدا .. اقبل على عمله بجد ونشاط وكان يهيم في التعب ويرجع منهكا لا يرى أمامه إلا فرشة منامه .. قد عمل في فندق يلتحق به منذ العصر بعدما يأتي من الجامعة إلى ما بعد منتصف الليل فقد مزق الإرهاق نسيم شبابه .. كان الطلاب يلاحظون عليه التعب والنعاس ومستغربين من انطوائيته وانشغاله في وقت الفراغ قبل المحاضرة بالدراسة لا يعرفون أن عنوانه المشقة وكتابه الألم والحرمان يبقى يدرس وعندما ينتهي يركض بسرعة لعمله .. وفي يوم لاحظ وجود فتاة تتابعه بهدوء دون أن تتكلم معه .. لم يكترث بذلك .. كان اسمها شروق فقد أُعجبتْ بشخصيته الهادئة المتحمسة .. وكان لديها فضول لمعرفة سبب هذه الجدية التي تملا تعابير وجهه .. مع مرور الأيام دخل قلبها الرقيق وأحبته كثيرا وكانت تحاول جلب انتباهه لكنه كان مفعما بالشقاء والانشغال .. لقد لاحظ امجد ما يجري حوله من وجود هذه الفتاة أمامه أينما ذهب .. أحسّ برعشة تغمر قلبه .. حاول أن يصرف هذا الشعور عنه لكنه لم يستطع ومع الأيام تعلق قلبه بشروق قرر أن يكلمها قليلا .. جلسا سوية والحب يسيطر عليهما حتى هبتْ نسمة العشق وسارت في ربيع قلوبهم .. شروق على حد تعبيره قد أشرقتْ دروبه المعتمة وأزالتْ قليلا من آهاته فقد كان بحره مظلما تتلاطم أمواجه العاصفة بشواطئه الميتة فهي شمس أزاحتْ الظلمة وأسكنتْ الهدوء حتى أضحى بحره هادئا نسماته عذبة تملؤه الحياة والسعادة .. أصبح حلمه يقترب شيئا فشيا بعد تشجيع حبيبته له ووقوفها معه .. يحلم بان يشتري بيتا لعائلته ويزيل الهم الذي رافقهم طويلا وينزع صفحة الآهات والحرمان .. ويبدلها بالهناء والسعادة بوجود شريكة حياته شروق ... حلمه أصبح هدفا لا بد منه .. وبعد أشهر بسيطة حان وقت التخرج من الجامعة .. فقد تخرج بامتياز ... كان هذا اليوم أجمل أيام حياتهم فلم يشعروا بروعة الفرحة بهذا الشكل .. دفنت والدته هما كاد أن يهلكها كان حلمها رؤية ابنها شابا متعلماً متفوقا تترامى عليه امتيازات فرص العمل حمدوا الله كثيرا على كل شيء ولإلهامه لهم الصبر الكبير على تحمل المسؤولية القاسية .. حظي على وظيفة لم يكن يحلم أبدا براتبها .. يقول هكذا سوف يولد حلمي .. وبالفعل استطاع أن يطفئ الشمعة المظلمة التي أحاطت بهم طوال ساعات حياتهم .. تبدل الألم بالراحة والظلمة بالنور الساطع والريح العاصفة بالنسمات الرطبة العطرة .. ولكن ثمة أمرا اعلم والدته به وهو حلمه بالزواج من محبوبته شروق .. هذا اسعد والدته كثيراً فزواجه أعظم ما تفكر به أمه .. تزوج من شروق وساروا في جنان الحب والعشق والحنان .. عندها أغلق كتاب الحزن والويلات ورمى به في بحر القساوة والشقاء ليبعد عنه ولا يعرف له طريقا .. وعاش باقي حياته بعظيم السعادة والود والهناء .
المفضلات