محاولة لفهم الغيرة على الجنس الآخر
إبراهيم كشت- في الشائع المتداول بين الناس، يستخدم لفظ (الغيرة) في معنيين، أولهما يشير إلى ذلك الانفعال الذي يكون باعثه متمحوراً حول الجنس الآخر، كغيرة الزوج على زوجته أو على من تكون لها خصوصية لديه من الإناث، أو غيرة المرأة على رجل لذات الأسباب، أما المعنى الثاني الشائع للفظ (الغيرة) فهـو ذلك الشعور الذي يكون سببه ميزة يملكها شخص آخر، كغيرة التلاميذ من زميلهم المتفوق، أو غيرة الطفل من شقيقه الأصغر المدلل، أو غيرة الموظفين من زميل لهم بسبب نجاحه في العمل، أو ما إلى ذلك.
ويبدو أن الاستخدام الثاني للفظ الغيرة خاطئ من حيث الأصل اللغوي، فالغَيْرةُ (بفتح الغين) في اللغة العربية تنصرف إلى غيرة الذكر أو الأنثى أحدهما على الآخر، أما ما يسمى بـ (غيرة) الفاشل من الناجح أو (غيرة) الشخص العادي من الشخص المتفوق، فيمكن أن يسمى لغة بـ (الحسد) إذا كان ذلك الشعور يتضمن تمنّي الميزة التي يمتلكها الآخر مع الرغبة بزوالها عنه، ويمكن أن تسمى (الغبطة) إن كان الشعور يتضمن تمنّي الميزة التي يملكها (المغبوط)، دون تمنّي زوالها عنه، وفقاً لما تقوله معاجم اللغة.
وما وددتُ الحديث عنه في هذه المقالة، وضمن ما تتيحه مساحتها، هو الغيرة بمعناها الأول الذي يكون من الذكر على الأنثى أو من الأنثى على الذكر، ولو أردنا أن نضع للغيرة بهذا المعنى تعريفاً، فسنجد الأمر عسيراً، كحال جميع الانفعالات والعواطف والغرائز والمشاعر، تكون عادة أكثر عمقاً وتعقيداً وتشابكاً من أن تُحصَرَ في تعريف محدد، ولكن كمحاولة، أقول بأن الغيرة : انفعال طبيعي في أصله، باعثه جنسي، لكونه يتعلق بإحساس بنوع من الاختصاص في أفرادٍ من الجنس الآخر، ويتضمن هذا الانفعال خليطاً متفاوتاً من مشاعر الضيق والغضب والخوف والشك والتّوجُّس، تؤدي إلى توتر قد ينقلب إلى عدوان، حين يحسُّ الشخص بأن آخرَ من نفس جنسه يمكن أن ينازعه في الشخص الذي يغار عليه، أو يمكن أن يحوز على انتباهه أو اهتمامه.
وأعتقد أنه ليس من الدقة في شيء، أن نظن بأن الغيرة مقتصرة على غيرة الزوج على زوجه أو على من يخصونه مباشرة من الجنس الآخر. فكلنا يدرك، إن هو تفكّر بصدق وعمق، أن الغيرة تتجه نحو الجنس الآخر عامّة وبدرجات متفاوتة، وتظهر بجلاء حين يلقى أحد أفراد هذا الجنس منا ميلاً نحوه، حتى لو لم نكن على علاقة مباشرة به، إلاّ أن حدة هذه الغيرة وآثارها ومدى وضوحها يتزايد كلما شعرنا باختصاصنا بفرد من ذلك الجنس الآخر. كما أن الغيرة بين أفراد الجنس نفسه والتنافس بينهم في التّأنق والظهور والتفوق وتحسين الصورة غالباً ما يكون باعثها اللاشعوري أو الشعوري الإحساس بالتنازع على الجنس الآخر.
ولأنه ليس ثمة غريزة أو عاطفة طبيعية في الإنسان (أو الكائنات الحية) إلا ولها في الحياة وظيفة، فإني أعتقد بأن الغيرة بمفهومها المتقدم تؤدي وظيفةً مُعتبرةً في خدمة قانون الحياة المتمثل في أن (البقاء للأصلح)، فهذا القانون لا يجد مجالات تطبيقه ولا (يُفعَّلُ) إلا في حال التنازع، والغيرة كفيلة بإثارة هذا التنازع بين أفراد الجنس الواحد (أي بين الذكور فيما بينهم والإناث فيما بينهن) ليظهر الأصلح في استقطاب الجنس الآخر، ونقل جيناته للأجيال من بعده، بمعنى أن الغيرة تعمل كفّرازة لتمييز الأصلح والأجدر. إنها كقصة النحل تطيرُ ملكتهم عالياً في السماء، فيلحق بها ذكور الخليّة، ثم يتساقطون في دأبهم هذا واحداً تلو الآخر موتى من شدة التعب، ولا يظفر بالملكة إلا واحد منهم، أثبت أنه الأصلح، والأقدر على التكيّف، وبالتالي فإن جيناته هي الأولى بأن تُورَّثَ.
ونحن حين نقول إن الغيرة بمعناها المتقدم شعور طبيعي، لا نعني أنه ينبغي أن يُطلَقَ لها العنان، فالخوف أيضاً شعور طبيعي، والجنس والعدوان غرائز طبيعية، وأن تكون طبيعية فهذا يعني أنه لا يمكن إلغاؤها أو استئصالها، وأن لها دوراً في استمرارية الحياة وتطورها، ولكن حياة الإنسان وتحضُّره تقتضي تشذيب تلك الغرائز والانفعالات والعواطف وتأديبها وإخضاعها للعقل، وإلا عادت حياة البشر إلى بدائيتها.
وكما هـو حال الغرائز والعواطف فـي نفس الإنسان عادة، فإن الغيرة يمكن أن تشتطّ، وتكون مجالاً للمبالغة والتطرف، ومثلما يمكن أن يكون الخوف والقلق والشك عادياً ومقبولاً ومحفِّزاً يمكن أن يكون أي منها مَرضَيّاً، وهذا هو حال الغيرة أيضاً، فإذا ترافقت مع الثقة المهزوزة بالذات، والصورة الدونية للنفس، ومع الشكوك والوساوس والخوف، فإنها تسبب توتراً وعدواناً، قد تنهار نتيجته علاقات الحبّ وروابط الزواج، وقد تقلب الحياة جحيماً، بل قد تسبب الإمعان في الإيذاء وسفك الدماء.
ودأبُ الإنسان عبر تاريخه الطويل، أن يفسر غرائزه بما يضفي عليها المعاني السامية، كأن يفسر العدوان الطافح الذي يصل حدّ جزّ الرقاب بالسكاكين بأنه جهاد، أو يفسر العدوان المتوثب للإيذاء بأنه رجولة أو شجاعة أو دفاع عن النفس، وكذلك وضع البشر عبر التاريخ تفسيرات شتى للغيرة، وأضفوا عليها مـا لا تحتمله من المعاني. وعلى أي حال، أحسب أن خير وسيلة لتهذيب الغيرة وإبقائها ضمن نطاقها غير المؤذي، هي أن نتفهّم أصلها كانفعال طبيعي في الإنسان والحيوان، انفعال له أصله الحيوي البدائي وله وظيفته، وأن نعرف أن ما يدعوها (أي الغيرة) إلى الشطط والتطرف هو المشاعر السلبية كالاحساس بالتملك والخوف والشك واهتزاز الثقة بالذات، إضافة إلى قلة الحكمة.
المفضلات