مفاجأة شهدتها في مركز تسوق راق زبائنه في العادة من الطبقتين العليا والمتوسطة ومع ذلك سمحت احدى العائلات لنفسها بترك طفل لا يتجاوز عمره السنتين يتجول وحيدا'' في الزحام الى ان ملأ صراخه المكان فالتقطه رجال الامن في المركز ليتبين انه يتجول هائما على وجهه بين الرفوف بلا ام او اب ولا حتى خادمة ترافقة كما هي العادة ..ومرت الدقائق ولم يسأل احد عن طفله الضائع وكان من الضروري الاعلان من خلال مكبرات الصوت مرة ثم اخرى ثم ثالثه ورابعة، بل لقد امتد النداء لأكثر من نصف ساعة لدرجة ان الصمت ساد مركز التسوق الكبير وكل راح يتلفت حوله بحثا'' عن ذوي الطفل الذي بكى وحيدا'' على طاولة ما يعرف بقسم خدمة الزبائن، تذمر ابني وعمره اقل من خمس سنوات وترقرقت عيناه بالدموع تضامنا'' مع الطفل التائه، غير انني طمأنته ان ام الولد سوف تعود اليه قريبا'' ..لكن احدا'' لم يظهر ليسأل عن الطفل الباكي بين يدي موظف الأمن مما اقتضى الاعلان مرة اخرى، وهذه المرة بطلب الانتباه من جميع المتسوقين الرجاء من ذوي الطفل التائه أحمد مراجعة خدمة الزبائن، وكما في الاعلان الذي سبق ساد الهدوء مشفوعا بمشاعر الحزن على الصغير، ولكن احدا لم يتقدم ليفصح عن هويته باعتباره ابا او اما للطفل احمد .. لم يظهر أحد، وازاء تطورات الموقف راح الناس يتفقدون أطفالهم ويتفحصون وجوه بعضهم بعضا ويتحسرون على حالة هذا الطفل، وسرت شائعة بسرعة البرق عن ام منقبة دخلت مسرعة وتركت الطفل في السوق ثم خرجت، وانهالت الشتائم على تلك الام المفترضة من كل حدب وصوب، بعض النسوة رحن يلمن الفقر وضيق الحال وساد المكان جو من الألفة وتشكلت حلقات تعارف عفوي بين الزبائن من خلال ابداء الملاحظات والاعراب عن التضامن مع المصاب الجلل الذي ألم بالطفل احمد، وراح كل منهم يسرد قصة مثيلة على جاره بلا سابق معرفة ..انا رحت ابحث بين الرفوف عن رجل وامرأة لم يعيرا القضية أي اهتمام بل راحا يتسوقان بروية ودونما اكتراث بالحالة التي سادت في مركز التسوق وكأن الامر مجرد نكتة سخيفة لا يودان الانشغال بها، ولسبب ما تعلق نظري بهذين الكائنين وخيل الي ان لهما علاقة ما بمآساة الطفل، وتبين لي ان المشاعر لم تكن هي فقط التي توحدت في قلوب زبائن تلك الامسية، بل والشكوك ايضا'' فقد تحركت الانظار لتنصب على الرجل اللامبالي وامرأته الدميمة الى جانبه ..،ثم فجأة تهامسا فأنطلق الرجل وقد هاله ان يكون مثار كل هذا الاهتمام الى قسم خدمة الزبائن وسط ذهول الجميع، بسط يديه كمن يتناول بطيخة فقفز اليهما احمد وهو يصيح بأعلى صوته، تناوله مثل كيس التسوق وألقاه فوق بقية الاكياس في العربة ثم نهر زوجته فتبعته كأن شيئا'' لم يكن.
تعالت الهمهمات فيما كان الرجل وزوجته يصطفان امام صندوق المحاسبة ويتهامسان بل ويبتسمان بكل ما اوتيا من برودة اعصاب، احمد كان واجما'' يبحلق بوجوه الناس من حوله ويبدد فزعهم ودهشتهم، ولما دفعته الام امامها بعربة التسوق خارجة من الباب الزجاجي الكبير توقف الأب برهة عند قسم خدمة الزبائن تبادل اطراف الحديث مع موظف الامن ثم خرج ..،وكان من الطبيعي ان يعرف الجمهور نهاية المآساة، وكنت اكثر الناس فضولا'' لانني كنت قد عقدت العزم على ان اكتب، ولما سألت موظف الامن عن الحكاية هالني ان اعرف ان احمد طفل (كثير غلبه) ولذلك قرر الابوان الحنونان ان يتركاه الى حين الانتهاء من التسوق وكانا يعرفان ان أمن المركز سوف يهتم به وسيكون طوال جولتهما بين علب الفول والحمص في (الحفظ والصون).
جهاد المومني
الراي
المفضلات