گورو يستعرض قواته قبيل معركة ميسلون
معركة ميسلون (8 ذي القعدة 1338هـ=24 يوليو 1920م) بين جيش الثوره العربية الكبرى في سوريا، بقيادة الأمير فيصل و يوسف العضمة، و الجيش الفرنسي، بقيادة هنري گورو. عدم التكافؤ أدى إلى انتصار الفرنسيين وفتح الباب لفرض الإنتداب الفرنسي على سورية وتقسيمها إلى خمس دويلات.
اجتمع المؤتمر السوري في (16 جمادى الآخرة 1338هـ= 8 مارس 1920م)، واتخذ عدة قرارات تاريخية تنص على إعلان استقلال سوريا بحدودها الطبيعية استقلالا تاما بما فيها فلسطين، ورفض ادعاء الصهيونية في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وإنشاء حكومة مسئولة أمام المؤتمر الذي هو مجلس نيابي، وكان يضم ممثلين انتخبهم الشعب في سوريا ولبنان وفلسطين، وتنصيب الأمير فيصل ملكًا على البلاد. واستقبلت الجماهير المحتشدة في ساحة الشهداء هذه القرارات بكل حماس بالغ وفرحة طاغية باعتبارها محققة لآمالهم ونضالهم من أجل التحرر والاستقلال.
وتشكلت الحكومة برئاسة رضا باشا الركابي، وضمت سبعة من الوزراء من بينهم فارس الخوري وساطع الحصري، ولم يعد فيصل في هذا العهد الجديد المسئول الأول عن السياسة، بل أصبح ذلك منوطًا بوزارة مسئولة أمام المؤتمر السوري، وتشكلت لجنة لوضع الدستور برئاسة هاشم الأتاسي، فوضعت مشروع دستور من 148 مادة على غرار الدساتير العربية، وبدأت الأمور تجري في اتجاه يدعو إلى التفاؤل ويزيد من الثقة.
مؤتمر سان ريمو
غير أن هذه الخطوة الإصلاحية في تاريخ البلاد لم تجد قبولا واستحسانًا من الحلفاء، ورفضت الحكومتان: البريطانية والفرنسية قرارات المؤتمر في دمشق، واعتبرت فيصل أميرًا هاشميًا لا يزال يدير البلاد بصفته قائدًا للجيوش الحليفة لا ملكًا على دولة. ودعته إلى السفر إلى أوروبا لعرض قضية بلاده؛ لأن تقرير مصير الأجزاء العربية لا يزال بيد مؤتمر السلم.
وجاءت قرارات مؤتمر السلم المنعقد في "سان ريمو" الإيطالية في (6 شعبان 1338هـ= 25 إبريل 1920م) مخيبة لآمال العرب؛ فقد قرر الحلفاء استقلال سوريا تحت الانتداب الفرنسي، واستقلال العراق تحت الانتداب البريطاني، ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وكان ذلك سعيًا لتحقيق وعد بلفور لليهود فيها. ولم يكن قرار الانتداب في سان ريمو إلا تطبيقًا لإتفاقية سايكس ـ بيكو المشهورة، وإصرارا قويا من فرنسا على احتلال سوريا.
وكان قرار المؤتمر ضربة شديدة لآمال الشعب في استقلال سوريا ووحدتها، فقامت المظاهرات والاحتجاجات، واشتعلت النفوس بالثورة، وأجمع الناس على رفض ما جاء بالمؤتمر من قرارات، وكثرت الاجتماعات بين زعماء الأمة والملك فيصل، وأبلغوه تصميم الشعب على مقاومة كل اعتداء على حدود البلاد واستقلالها.
رفض فيصل قرارات المؤتمر
وتحت تأثير الضغط الوطني وازدياد السخط الشعبي، رفض فيصل بدوره قرارات مؤتمر سان ريمو، وبعث إلى بريطانيا وفرنسا برفضه هذا؛ لأن هذه القرارات جاءت مخالفة لأماني الشعب في الوحدة السورية والاستقلال، ولفصلها فلسطين عن سوريا، ورفض الذهاب إلى أوروبا لعرض قضية بلاده أمام مؤتمر السلم ما لم تتحقق شروطه في الاعتراف باستقلال سوريا بما فيها فلسطين، ودارت مراسلات كثيرة بينه وبين الدولتين بخصوص هذا الشأن، لمحاولة الخروج من المأزق الصعب الذي وضعته فيه قرارات مؤتمر سان ريمو، غير أن محاولاته تكسرت أمام إصرار الدولتين على تطبيق ما جاء في المؤتمر.
وفي أثناء ذلك تشكلت حكومة جديدة برئاسة هاشم الأتاسي في (14 شعبان 1338هـ= 3 مايو 1920م) ودخلها وزيران جديدان من أشد الناس مطالبة بالمقاومة ضد الاحتلال، هما: يوسف العظمة، وعبد الرحمن الشهبندر، وقدمت الوزارة الجديدة بيانها الذي تضمن تأييد الاستقلال التام، والمطالبة بوحدة سوريا بحدودها الطبيعة، ورفض كل تدخل يمس السيادة القومية. واتخذت الوزارة إجراءات دفاعية لحماية البلاد، ووسعت نطاق التجنيد بين أبناء الشعب استعدادًا للدفاع عن الوطن.
الإنذار الفرنسي
كان من نتيجة إصرار القوى الوطنية السورية على رفض قرارات مؤتمر سان ريمو أن اتخذت فرنسا قرارًا بإعداد حملة عسكرية وإرسالها إلى بيروت؛ استعدادًا لبسط حكمها على سوريا الداخلية مهما كلفها الأمر، وساعدها على الإقدام أنها ضمنت عدم معارضة الحكومة البريطانية على أعمالها في سوريا، وكانت أخبار الحشود العسكرية على حدود المنطقة الشرقية في زحلة وقرب حلب تتوالى، ثم لم يلبث أن وجه الجنرال "گورو" قائد الحملة الفرنسية الإنذار الشهير إلى الحكومة العربية بدمشق في (27 شوال 1338 هـ= 14 يوليو 1920م) يطلب فيه: قبول الانتداب الفرنسي، وتسريح الجيش السوري، والموافقة على احتلال القوات الفرنسية لمحطات سكك الحديد في رياق وحمص وحلب وحماه.
وطلب الجنرال قبول هذه الشروط جملة أو رفضها جملة، وحدد مهلة لإنذاره تنتهي بعد أربعة أيام، فإذا قبل فيصل بهذه الشروط فعليه أن ينتهي من تنفيذها كلها قبل (15 ذي القعدة 1338هـ= 31 يوليو 1920م) عند منتصف الليل، وإذا لم يقبل فإن العاقبة لن تقع على فرنسا، وتتحمل حكومة دمشق مسئولية ما سيقع عليها.
ولما سمع الناس بخبر هذا الإنذار، اشتعلت حماستهم وتفجرت غضبًا، وأقبلوا على التطوع، فامتلأت بهم الثكنات العسكرية، واشتد إقبال الناس على شراء الأسلحة والذخائر، وأسرعت الأحياء في تنظيم قوات محلية للحفاظ على الأمن.
قبول فيصل بالإنذار
اجتمع الملك فيصل بمجلس الوزراء في (29 شوال 1338 هـ= 16 يوليو 1920م) لبحث الإنذار، ووضع الخطة الواجب اتباعها قبل انقضاء مهلته، وكان رأي يوسف العظمة وزير الدفاع أنه يوجد لدى الجيش من العتاد والذخيرة ما يمكنه من مقاومة الفرنسيين لكنها لم تكن كافية للصمود طويلا أمام الجيش الفرنسي البالغ العدد والعتاد، واتجه رأي الأغلبية عدا العظمة إلى قبول الإنذار الفرنسي، وبقي أمام فيصل أخذ موافقة أعضاء المؤتمر السوري على قبول الإنذار؛ فاجتمع بهم في قصره، لكن الاجتماع لم يصل إلى قرار، فاجتمع الملك فيصل مع مجلس وزرائه ثانية وأعلنوا جميعًا قبولهم الإنذار، وبدأت الحكومة في تسريح الجيش دون خطة أو نظام، فخرج الجنود من ثكناتهم بعد أن تلقوا الأوامر بتسريحهم ومعهم أسلحتهم، واختلطوا بالجماهير المحتشدة الغاضبة من قبول الحكومة بالإنذار، فاشتدت المظاهرات وعلت صياحات الجماهير، وعجزت الشرطة عن الإمساك بزمام الأمور.
معركة ميسلون
وفي ظل هذه الأجواء المضطربة وصلت الأخبار إلى دمشق بتقدم الجيش الفرنسي، بقيادة گورو في (5 ذي القعدة 1338 هـ= 21 يوليو 1920م) نحو دمشق بعد انسحاب الجيش العربي، محتجًا بأن البرقية التي أرسلها فيصل بقبوله الإنذار لم تصل بسبب انقطاع أسلاك البرق من قبل العصابات السورية، وإزاء هذه الأحداث وافق الملك فيصل على وقف تسريح الجيش، وأعيدت القوات المنسحبة إلى مراكز جديدة مقابل الجيش الفرنسي، وأرسل إلى غورو يطلب منه أن يوقف جيشه حتى يرسل له مندوبًا للتفاهم معه حقنًا للدماء، لكن هذه المحاولة فشلت في إقناع الجنرال المغرور الذي قدم شروطًا جديدة تمتهن الكرامة العربية والشرف الوطني حتى يبقى الجيش الفرنسي في مكانه دون تقدم، وكان من بين هذه الشروط تسليم الجنود المسرّحين أسلحتهم إلى المستودعات، وينزع السلاح من الأهالي.
رفضت الوزارة شروط غورو الجديدة، وتقدم يوسف العظمة لقيادة الجيش السوري دفاعًا عن الوطن، في الوقت الذي زحف فيه الجيش الفرنسي نحو خان ميسلون بحجة توفر الماء في المنطقة، وارتباطها بالسكك الحديدية بطريق صالح للعجلات، وأصبح على قرب 25 كم من دمشق.
وفي هذه الأثناء كانت المظاهرات لا تزال تملأ دمشق تنادي بإعلان الجهاد ضد الفرنسيين، وأصدر فيصل منشورا يحض الناس على الدفاع بعد أن فشلت كل المحاولات لإقناع الفرنسي عن التوقف بجيشه.
الجنود السوريون في معركة ميسلون
خرج يوسف العظمة بحوالي 4000 جندي يتبعهم مثلهم أو أقل قليلا من المتطوعين إلى ميسلون، ولم تضم قواته دبابات أو طائرات أو تجهيزات ثقيلة، واشتبك مع القوات الفرنسية في صباح يوم (8 ذي القعدة 1338 هـ/24 يوليو 1920م) في معركة غير متكافئة، دامت ساعات، اشتركت فيها الطائرات الفرنسية والدبابات والمدافع الثقيلة.
وتمكن الفرنسيون من تحقيق النصر؛ نظرًا لكثرة عددهم وقوة تسليحهم، وفشلت الخطة التي وضعها العظمة، فلم تنفجر الألغام التي وضعها لتعطيل زحف القوات الفرنسية، وتأخرت عملية مباغتة الفرنسيين، ونفدت ذخائر الأسلحة.
وعلى الرغم من ذلك فقد استبسل المجاهدون في الدفاع واستشهد العظمة في معركة الكرامة التي كانت نتيجتها متوقعة خاضها دفاعًا عن شرفه العسكري وشرف بلاده، فانتهت حياته وحياة الدولة التي تولى الدفاع عنها.
ولم يبق أمام الجيش الفرنسي ما يحول دون احتلال دمشق في اليوم نفسه، لكنه القائد المعجب بنصره آثر أن يدخل دمشق في اليوم الثاني محيطًا نفسه بأكاليل النصر وسط جنوده وحشوده.
المفضلات