أسامة المفتي.. راهب القلعة وعاشق الشعر
لم تكن الكرك بالنسبة له مجرد مكان، بل كانت بمنزلة الروح التي إن فارقت الجسد أكله الفناء، فمسقط الرأس بؤرة مركزية لانتماء المرء، وهو انحياز للخطوات الأولى، ومربى الشباب، والمتسع الذي يترعرع الطفل، ويتعلم ويواجه مصاعب الحياة ويتذوق فرحها، لذا نجد الشاعر أسامة المفتي قد حمل معه الكرك طيلة مراحل عمره، وترجم هذا الحب شعراً ونثراً، فكان خير سفير، وأصدق ناطق بجمالها وعمق تاريخها، وأصالة أهلها، وقد بادلته الكرك الحب بحب معطاء، وإخلاصه بوفاء لا ينقطع بدا.
ينتسب الشاعر أسامة المفتي إلى عائلة مرموقة، عرفت بحبها للعلم والمعرفة، وقدمت للمنطقة العربية عدد من العلماء، وخريجي معاهد العلم منذ أواخر القرن التاسع عشر، فوالده الطبيب المشهور محمد مختار المفتي، الذي قدم من ديار بكر بعد أن حصل على إجازة الطب من المعهد الطبي العربي، التابع للجامعة السورية، فكان من أوائل من حمل شهادة الطب في المنطقة، فعين في عهد الحكومة الفيصلية بدمشق طبياً في الكرك فقدم إليها بالقطار حتى القطرانة ومنها واصل طريقه حتى بلغ المدينة العريقة، وقد عرف هذا الطبيب في الكرك وقراها وبواديها، وكان يتنقل بين هذه المناطق ممتطياً جواده، في ظل غياب المواصلات في تلك الفترة، وقد طابت له الإقامة في الكرك، فأفتتح عيادته، وتزوج من فتاة كركية، وعاش وعمل حتى توفي ودفن فيها.
كان أسامة الابن البكر لهذا الطبيب، فقد ولد في العام 1930م، في مقر إقامة العائلة الكرك، وكان حاله كحال أبناء الكرك، يلعب في حاراتها، ويلهو في أزقتها، وعندما بلغ سن الدراسة التحق بمدارسها، وكان من طلبتها المميزين، كيف لا ووالده عرف بالإضافة إلى كونه طبيباً مدرساً للمواد العلمية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء، ولا شك أن هذا الحب للعلم الذي تميزت فيه العائلة منذ ديار بكر، قد انعكس على أسامة، وحببه فيه وساعد على تميزه، لكن الظروف لم تكن دائماً ملائمة لمزيد من تلقي العلم، فوجد الفرصة سانحة لخدمة وطنه، فبادر إلى بالفرسان عام 1949م، غير أن الرغبة في تحقيق حلم إكمال الدراسة لاحقه بشكل مستمر، حتى تمكن أخيراً من الحصول على فرصة السفر إلى مصر من أجل هذه الغاية، وهذا ما حدث، وأنتظم في كلية الآداب التابعة لجامعة فؤاد الأول، والتي أصبحت فيما بعد جامعة القاهرة، وبدأ بدراسة الأدب العربي، متجهاً بذلك للدراسات الأدبية على خلاف ما درجت عليه عائلته ذات التوجهات العلمية.
لقد تفاعل بشكل ملحوظ مع الحراك السياسي، الذي اجتاح مصر في فترة الملك فاروق، واشترك بالمسيرات، والصالونات السياسية، وكان من نتيجة ذلك أن أعتقل وأودع السجن، لكنه واجه كل ذلك وتمكن من الحصول على الليسانس في اللغة العربية وآدابها، عاد بعدها إلى الأردن، ولم تطل به الحال حتى عين مديراً لجوازات القدس في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي، بعد هذا العمل فضل الالتحاق بالقوات المسلحة الأردنية فدخلها برتبة ضابط، كان ذلك عام 1955م، وقد كانت تقع على الجيش مهام جسام في تلك المرحلة المكتنزة بالمواجهات العسكرية، وقد خاض مع الجيش حرب 1967م وما خلفته من مرارة في نفوس الشباب العربي، وقد استمرت الغارات والمناوشات حتى شن العدو هجومه في معركة الكرامة الخالدة، فأعاد النصر الثقة في النفوس، وفي حرب تشرين عام 1973م، خاضها أسامة المفتي كضابط احتياط .
لم تبعده الخدمة العسكرية عن العلم، فقد قام بتدريس اللغة العربية من خلال عمله مدرساً في الثقافة العسكرية، التي انتشرت مدارسها في البلدات والقرى والبوادي الأردنية، وكانت هذه فرصة ليسهم في تخريج نخبة من رجالات الوطن الذين كانت لهم بصماتهم الخاصة عل بناء الوطن ونهضته السريعة، وكان من بين طلابه: محمد عضوب الزبن، سعد هايل السرور، سمير الحباشنة وغيرهم، ولم يكن أسامة المفتي ببعيد عن الأنشطة السياسية والاجتماعية، وكان ينطلق في نشاطه السياسي من انتمائه الوطني العميق، وكان دائماً مستعداً لدفع الثمن، مما أضطره للابتعاد عن الوطن والأهل، لذا كان حاضراً في الحراك السياسي والثقافي، وأسهم في تأسيس الوعي الجماعي بقضايا الأمة، وكان من أجل هذا الجانب التنويري لا يتوانى في مواجهة المصاعب، التي غالباً ما أبعدته عن محبه وذويه.
تفجرت موهبته الشعرية منذ سن مبكرة، ولعل هذا ما دفعه للتوجه لدراسة اللغة العربية، وعمل على نشر قصائده، وكتاباته الأدبية في عدد من أهم الصحف والمجلات العربية والمحلية، وكان دائم الحضور في المناسبات الثقافية من خلال المهرجانات الداخلية والخارجية، وواظب على إقامة الأمسيات الشعرية في مختلف المناطق، وكان دائم التلبية لدعوات المنتديات والملتقيات الثقافية، بالإضافة لتقديم لمحاضرات أدبية وتاريخية متنوعة.
كان مولعاً بالكرك إلى درجة كبيرة ولافتة، وقد لازم القلعة كثيراً حتى لقب راهب القلعة، ويعتبر من المتخصصين بتاريخها، حتى عد مرجعاً يقصده كثير من الدارسين و المهتمين، وقد قدم عدد من المحاضرات عن تاريخ الكرك في الجامعات الأردنية، فبرزت الكرك في شعره وأدبه، وقد تعمق في حضارتها الزاهرة قديمها وحديثها ، فامتد بعشقه لها من نهضة مؤاب حتى أعالي جبل شيحان الحاضر، والناظر نحو مستقبل مكتمل الإشراق، وكان من ألقابه المحببة أيضاً (أبن شيحان) وفي هذه الألقاب دلالة عميقة الأثر، تؤشر على شاعر كبير كرس إبداعه اهتمامه بالمكان الخاص، والوطن الكبير، فكان أهل للتقدير والتكريم المتواصل.
تعددت اهتماماته الأدبية والتاريخية، فلقد أنجز عددا من الدواوين الشعرية والمذكرات، بالإضافة النتاج الفكري والتاريخي، وقد امتاز شعره بالأصالة وجودة السبك ورصانة اللغة وقوتها، وحظي باحترام ومحبة كبيرين، لصدقه وإخلاصه بالعمل وصدقه بالقول، ناهيك عن موهبته الأدبية المتفوقة، وانحاز للمكان الأردني، فكان منطلق الإبداع وفضاء للشعر المحلق بحرية وعذوبة، لذلك كرمته الكرك باتخاذ قرار بتسمية شارع باسمه بعد وفاته، وكذلك فعلت أمانة عمان، مما يدلل على المكانة التي بلغها لدى الناس والجهات الرسمية، فلقد غادرنا إلى الحياة الآخرة في الخامس عشر من آذار عام 2004م، وفي حفل تأبينه نقل معالي سمير حباشنة أمر جلالة الملك عبد الله الثاني بطباعة دواوين أسامة المفتي على نفقته الخاصة، تكريماً لها المبدع الكبير الذي ستبقى ذكراه عابقة في النفوس حاضراً في المكان كشجرة طيبة.
المفضلات