منطق العبودية لله
عندما يتفكر المرء في قوله تعالى: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين يتبدّى له ما يبهر العقول؛لأنّه يعطي تصوراً شاملاً عن جماليات العبادة في الإسلام، وهذه الآية محطّ أنظار أهل البلاغة والفكر من علماء الإسلام، فابن القيّم رحمه الله ألف كتابأً سمّاه مدارج السالكين بين منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين حيث رحل بفكره في دلالات هذه الآية ومقاماتها الرّوحية العرفانية .
فقوله سبحانه وتعالى إيّاك نعبد يوضّح لنا من هو المعبود فهو الله تعالى الذي يريد من عبده إفراده بالعبادة وأن لا يشرك به أحداً ؛ لأنّه هو من خلق العباد وأنعم عليهم .
وهنا تظهر بلاغة القرآن في الدلالة على إفراد الله بالعبادة، فقوله إيّاك نعبد يختلف معنىً عن عبارة نعبدك؛ لأنه قد يفهم من عبارة نعبدك جواز عبادة غير الله، فلما قال : إيّاك نعبد دلّ على أنّ الله وحده هو المستحقّ للعبادة.
وملحظٌ آخر نلحظه في الآية، وهو أن فعل العبادة جاء بصيغة الجمع، فلم تقل الآية إيّاك أعبد بل إيّاك نعبد؛ ليدلنا الحقّ سبحانه وتعالى على أنّ أعظم العبادات، العبادات الجماعية التي يتوحّد فيها المسلمون، مثل صلاة الجماعة وصيام رمضان والحج وغيرها من العبادات التي تدعو المسلمين إلى ضرورة التعاون فيما بينهم لجني ثمار مقاصدها.
ومن العبادات التي تبرز أثر التعاون في إقامتها، صلاة الجمعة التي شرعت إقامتها بشكلٍ جماعي قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون (الجمعة :9_10) فيستفاد من الآية ضرورة وجود جمعٍ من النّاس لإقامة صلاة الجمعة، وقد ذهب الشافعي إلى أنّ أقل الجمع الوارد في الآية أربعون شخصاٌ من الناس المقيمين في البلدة، وهذا معناه أن التسعة والثلاثين رجلاً يحتاجون إلى من يكمّلهم على الأربعين فالجمع محتاجٌ للفرد والفرد محتاج إلى الجماعة.
ولو ذهبنا نستعرض مفردات العبادات في الإسلام، لوجدنا كل عبادة منها تمتاز بالجمال والكمال والتوازن، وتحقق مصالح متعددة للفرد والجماعة.
وهنا نقطة في العبادة لا بدّ من الوقوف عندها ألا وهي ما يجده العابدون من استشعارٍ للأنس بالله، وحالة التلذذ باستشعار معاني العبودية عند القيام بالعبادات، وحالة الفرح بقدومها؛ لما تبعثه في النفوس من الاستبشار بفضل الله، ممّا يملئ النفس بالرضا عن الله، والرحمة بعباد الله .
وممّا يروى في ذلك عن أحد الصالحين أنه قال عندما تهيأ للذهاب إلى الصلاة قال وهو يستشعر الأنس بالله:
إذا دعـــا داعيــكم قمــت مســرعاً مجيبــــاً لمــــولىً ليــــس لـــــه مثـــــــل
أجيب إذا نــادى بســمعٍ وطاعــةٍ وفيّ نشوة لبيّك يا من له الفضل
متى تجمع الأيام بيني وبينكم ويفرح مشتاقٌ إذا جمع الشمل
وهذا الأنس بالله الذي يستشعره من يؤدي العبادة بمحبةٍ، له أصلً في الكلام النبوي، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول لبلال: يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها رواه أبو داود.
المفضلات