من أصلح نيته بلغ أمنيته
لا يخفى على العقلاء أنّ الحياة الدنيا فرصةٌ قصيرةٌ منحها الله للإنسان، وهذه الفرصة لا تقبل العبث ولا الإضاعة، فالعاقل من استثمر كل عملٍ له في طاعة الله سبحانه وتعالى.
ولكن السؤال الذي يُطرح، ما دام عمر الإنسان محدود؟ فهل بالإمكان مضاعفة الأجر والثواب على أعماله المحدودة؟ وللجواب عن هذا السؤال، لا بدّ من معرفة موقف الشرع وإرشاداته للناس؛ لكي نعرف الطرق المشروعة لنيل هذا المراد، فالعلماء يقولون: بأنّ كل عمل يتكوّن من قصدٍ وفعل، والفعل مرتبط بمقصده، وهذا ما يقصده الفقهاء بقولهم: الأمور بمقاصدها فمن عمل عملاً صالحاً، واستحضر نيات الخير مع عمله، أعطي أجراً على عدد النيات الحسنة التي استحضرها أثناء قيامه به.
والأدلة على اعتبار النية هي مقصد العمل وعليها مبتناه كثيرة، قال صلى الله عليه وسلم-: إنما الأعمال بالنيات...رواه البخاري، وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام: مثل هذه الأمة مثل أربعة نفر رجلٌ آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل به في ماله وينفقه في حقّه، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً وهو يقول: لو كان لي مثل مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال صلى الله عليه وسلم- فهما في الأجر سواء، و رجلٌ آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط فيه ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً فيقول لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال صلى الله عليه وسلم فهما في الوزر سواء، رواه أحمد والترمذي.
فهذه الأحاديث تدعو أفراد الأمة إلى تصحيح مقاصدهم من أعمالهم بأن يقصدوا من منها مرضاة الله وتعالى والنهضة بأنفسهم، وخدمة مجتمعاتهم ووطنهم.
والأمثلة التطبيقية على ذلك كثيرة جداً، فلو بدأنا من الذاهب للمسجد فإن عمله هذا يتضاعف عندما يستحضر نياتٍ حسنةٍ فيقول في نفسه أنوي في ذهابي للمسجد أداء الصلاة في جماعة، وأنوي توظيف جوارحي في طاعة الله، وأنوي ملاقاة إخواني وجيراني لأسلّم عليهم، وأسأل عن حالهم، وأنوي أماطة الأذى عن الطريق إذا رأيته وأنا ذاهبٌ للمسجد، وما يُقال عن العابد يُقال في حقّ التاجر، مع أن التجارة عمل مباح، لكن النية الحسنة تنهض بالعمل المباح وتفتح أبواب الأجر لصاحبه إذا نوى نيات حسنة من تجارته كأن ينوي تحرِّي الكسب الحلال، وصيانة نفسه، وأهله من الحاجة إلى الآخرين، والحصول على المال وأداء حقوق المال من الزكاة وإعانة الأرامل والمساكين وكفاية المسلمين من السلع المباحة، فكل هذه النيات تضاعف أجر العمل وثوابه.
وما يقال في حق التاجر يقال في حق طلبة العلم، وهؤلاء في مجتمعنا على نوعين، أحدهما طالب المدرسة، فيثاب على دراسته عندما ينوي تثقيف نفسه، وينوي من وراء تعلمه التعرف على طرق القيام بحق الله، وكذلك سبل القيام بحقوق الناس؛ مما يدفعه لطلب العلم النافع.
أمّا الخريجون الجامعيون، فتكثر أجورهم عندما يستحضرون نية الإخلاص إلى الله تعالى، والتي تدفعهم إلى توظيف ما تعلّموه في بناء وطنهم، والمشاركة في تقدّمه.
ولقد فهم سلف هذه الأمة وخيارها تلك المسألة التي هي من مهمّات الشرع، فصحّحوا مقاصدهم، فكان الواحد منهم إذا أكل نوى أن يتقوّى بأكله على طاعة الله، وإذا تزوج نوى إعفاف نفسه وإعفاف زوجته، وبناء الأسرة الصالحة، فإذا أخذ أخذ لله وإذا أعطى أعطى لله.
فكان تصحيح المقصد من أولى أولويات التثقيف الإسلامي فالإمام النووي -رحمه الله ابتدأ كتابه رياض الصالحين بكتاب الإخلاص في النية، ومن قبله البخاري الذي ابتدأ كتابه الجامع الصحيح، بحديث: إنما الأعمال بالنيات وفعل هؤلاء الأئمة العظام يدل على إدراكهم العميق لأهمية النية في صحّة العمل، وتقدٌّمه، وكماله، وبقائه.
قال أحد الصالحين: من أصلح نيته بلغ أمنيته تلك كلمة جامعة في بيان أثر النية، فليبحث كل منا عن عملٍ صالح يستحضر صاحبه عند القيام به منافع عمله التي تعود عليه في آخرته بالثواب وينصلح بها أمر دنياه، ولنجعل من النيات الحسنة ثقافة نعيشها في أعمالنا ولنربي عليها أنفسنا، وأبناءنا، وأجيالنا، ولنحذر من مفسدات العمل وعللها مثل الرياء والسمعة، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى (البقرة :264) .
إنها دعوة ليتقرب كلٌ منا إلى الله تعالى بالواجب والمندوب والمباح، ويتحصّل على الأجور العظيمة عندما يستحضر عند القيام بعمله النيات والمقاصد الحسنة، فهذا التصوّر يجعل من الأرض كلها مسجداً لله، الجالسون فيه يحرصون على الطاعة والكلام الطيب، والعمل الصالح، وكف الأذى، والتعاون على البر والتقوى مع الآخرين، والتخلص من الرذائل والتحلي بالفضائل.
المفضلات