في الماضي القريب، كان يكفيك أن تملك حداً أدنى من الفطنة تميّز من خلالها أساليب البقّال، أو بائع الخضار البسيط، حين يضع الخضار الطازجة على (وجه البُكسة)، ويخفي الرديء منها في الأسفل، أو يُخْسِرُ الميزان قليلاً، أو يزيد قرشين في السعر . أما في وقتنا الحاضر، فأنت أمام منتجين ومتخصصين في التسويق، يدرسون سلوك المستهلك علمياً، من اللحظة التي تسبق نشوء الرغبة بالشراء لديه، مررواً بحاجاته غير المشبعة، ثم سلوك الشراء عنده، ابتداء من استقباله للمثيرات وإدراكها وتفسيرها، ثم جمعه للمعلومات حول السلعة أو الخدمة، ثم الميل إليها، ثم ترجيحها، ثم الاقتناع بها . ولا ينتهون عند شرائه لها، بل يستمرون بدراسة أحاسيسه بعد الشراء، ولهم في كل مرحلة أساليبهم في الاستمالة والإقناع .
ولعل مما يزيد تأثير فنون التسويق في المستهلك، تلك الوسائل الثلاث الحديثة في الاتصال، والتي كاد يكون ظهورها متزامناً، وأُعني بها : الفضائيات، والخلويات، والانترنت . وكلها تملك من القدرة على الوصول والتوصيل والتواصل ما يكفي لجعل الترويج للسلع والخدمات، بشتى الوسائل، يبلغ القلوب والعقول بيسر وسهولة، في أي وقت وأي مكان وأي ظرف، بل أتاحت هذه الوسائل ثلاثتها ابتداع سلع وخدمات جديدة، ووسائل أخرى في البيع والتوزيع، وحسبُكَ مثلاً على ذلك تلك الرسائل الخلوية القصيرة بعد أن أصبحت وسيلةً للاشتراك في المسابقات التي تؤمِّلُ المستهلك بالجوائز العظيمة والكسب السريع، أو تدعوه للتصويت في مختلف البرامج الفنية التلفزيونية، بما يحقق أرباحاً طائلة للفضائيات وغيرها من الشركات .
وبناء على ما تقدم، فإن المستهلك يحتاج فعلاً إلى الانتباه، ليقف على الأساليب النفسية المدروسة التي يتبعها البائعون والمروّجون لتسويق سلعهم وخدماتهم، مثلما يحتاج إلى التفكير الصحيح الذي يميّز بين ما يتّسق مع المنطق وما يناقضه في الدعايات وشتى وسائل الترويج الأخرى، وذلك ليتمكن من مقاومة ما تحمله تلك الوسائل من إيحاءات نفسية مركّزة ومؤثرة، رغم أن عباراتها ومزاعمها كثيراً ما تكون متناقضة، أو غير مستندة لدليل، أو منافية للواقع والتجربة وحقائق العلم، أو قائمة على الكذب الإحصائي (أي استخدام الأرقام الصحيحة لتعطي دلالة خاطئة)، أو مجافية للدقة باستخدام المبالغة، عن طريق انطلاق من حقيقة قائمة، ثم تضخيمها، والتوسع في تفسيرها، والشطط في تصوير آثارها ..
لكن، ورغم كل ما ذكرنا، فإن التسويق بمفهومه الواسع، كعلم وفن وممارسة، يظل ضرورة اقتصادية لا غنى عنها، ولاسيما في ظل العولمة التي تُعتَبَرُ المنافسة أهم مقوماتها، والمنافسة بطبيعة الحال تَصبُّ في مصلحة المستهلك، لأنها تؤدي إلى جودة المنتج وانخفاض سعره، لكن يجب أن ينتبه المستهلكون لكل وسائل الترويج ويتفهموها، لئلا يشتري المرء ما لا حاجة له به، أو ما ثمة أولوية تتقدم عليه، أو ما لا يسمح دخله بإقتنائه، ولكي لا يدخل دوامة الاستهلاك لأجل المظاهر ومجاراة الآخرين .
ولعل المسألة المهمة الأخرى التي يجدر ذكرها، هي أن التسويق كعلم وتطبيق نشأ وترعرع وتطور في البلاد الرأسمالية المتقدمة، وتلك البلاد تسودها ثقافة أكثر ميلاً للصدقية في شؤون البيع والشراء مما هو الحال عليه في الدول النامية، ويكفي دليلاً على ذلك أن الأسعار في المتاجر عندهم محددة ومعلنة وليست محلاً للمساواة، والتنزيلات لديهم حقيقية، وضمان السلعة وخدمتها بعد البيع فعلي، وكل هذا يخالف ما عليه الحال لدينا . أضف إلى ذلك أن القوانين التي تحكم المواصفات وتحمي المستهلك في تلك البلاد أكثر تطوراً وتشدداً، كما أن سلوك المستهلك أقرب إلى الرشد مما هو في الدول النامية، التي يميل الأغنياء، بل وأبناء الطبقة الوسطى فيها، للاستهلاك بهدف الاستعراض والتفاخر والتمايز .
ومن شأن كل ما تقدم أن يجعل تأثير وسائل التسويق أعمق وأوسع في أفراد المجتمعات النامية، ويجعل الحاجة لتفهمها والوقوف عليها والتعامل معها، من خلال الانتباه والتفكير الصائب، أكثر أهمية .همي
المفضلات