ما هي القيم ... ؟
هل يبدو الخوض في موضوع القيم مجرّد حديث فلسفي، أبعاده نظريّة، ولا تترتب عليه آثار عملية ملموسة في الواقع والحياة ؟ وهل للبحث في هذا الموضوع من أهمية في عصر العلم الذي نؤمن فيه بأن ((إدراكنا لموضوع ما ليس إلاّ إدراكنا لما يترتب عليه من آثار عملية، لا أكثر ..)) على حد تعبير الفيلسوف الأمريكي بيرس ؟ الحقيقة ليست كذلك، فموضوع القيم بالذات شديد الاتصال بحياة الفرد والمجتمع، لأنها ـ أي القيم ـ تُحدد السلوك وتُحرِّكه وترسم له منهجه (وفقاً لما يقوله الدكتور عادل العوا في كتابه عمدة القيم ، والذي سوف نستفيد منه في جوانب من هذا المقال) ولأنها تدفعنا إلى اختيار شيء وترك شيء آخر، والقيام بعمل والانتهاء عن عمل . ولهذا السبب فإن إدراك مفهوم القيم، وفهم جوانبها وأبعادها، تساعد المرء على فهم مواقفه وتصرفاته، ومواقف وتصرفات من حوله، على نحو يُسهم في إمكانية تحقيق مزيد من التغيير الإيجابي والتّنمية، على مستوى الفرد والمجتمع .
ومع أن مصطلح القيم مستخدم في أحاديث عامّة الناس على نطاق واسع، فقلما تشعر أن مفهومـه واضح في أذهان كثير منهم، وغالباً ما يتم خلطه بمفهوم الأخلاق والمبادئ، أو الأهداف والغايات، رغم أن له مدلولات محددة أشبعها الفلاسفة بحثاً، وتناولتها دراسات علم الاجتماع بتعمّق، لما لها من أثر في حياة الجماعات ومواقفها واتجاهاتها وسلوكها، ولما لها من أثر كذلك في تقدم المجتمع أو تخلفه، بل لقد بدأت علوم أخرى (كعلم الإدارة) بالاهتمام بموضوع القيم، بعد أن أثبتت لها الدراسات الميدانية مدى تأثيرها في الإنتاج والكفاءة.
وإذا كانت الأمثلة هي ما يبين علاقة الأفكار بالحياة المُعاشة، ويوضح صورها العملية، فيمكننا أن نأتي بالكثير من الأمثلة على القيم : فثمة قيم روحية، كقيمة المحبة والتسامح، وقيم سلوكية كقيمة العطاء والبذل، وقيم اجتماعية كقيمة اللباقة والأدب، وقيم جمالية كقيمة النثر والشعر والرسم والنحت، وقيم اقتصادية كقيمة نمو الدخل وتحسين مستوى المعيشة، وقيم شخصية كالوزن الذي نعطيه لبطل أو عالم أو مفكر، وقيم نفسية كقيمة تحقيق الذات وقيمة السعادة الداخلية، وقيم علمية كقيمة البحث والابتكار، وقيم فكرية كقيمة الحريّة والديموقراطية، وقيم إدارية كقيمة الإنتاج والكفاءة والجودة .. الخ .
ومن خلال الأمثلة السابقة ندرك أن تعريف القيمة ليس أمراً سهلاً، ولكن وطالما أن المقصود من التعريف هـو توضيح الصـورة الذهنية للمصطلح، فإنه يمكننا القـول أن القيمة تحمل في مدلولها إشارات متعددة : فهي تشير إلى علاقة بين شخص وموضوع، بحيث يضفي ذلك الشخص على هذا الموضوع صفة ما هو مرغوب فيه، أو صفة ما يستحق التقدير، أو صفة ما له وزن، أو ما هو مهمّ، أو حسن، أو نافع، أو قادر على إشباع الحاجات .. كما قد تشير القيمة إلى صورة ما يجب أن يكون، وتعبّر عن صورة ما يجب أن يفعل .
وفي سبيل توضيح أوفى لمفهوم القيمة، ولأنّ الأشياء تتميز بضدها، يمكننا القول : إن ضـد القيمة ونقيضها هـو اللامبالاة ، فإذا كُنتَ مثلاً غير مبالٍ بالوقت، فالوقت ليس قيمة بالنسبة إليك، وإذا كنت غير مبالٍ بالقراءة، فالكتب ليست قيمة عندك، وهكذا، غير أن القيمة ليست رديفاً للهدف والغاية والمثل الأعلى وما هو في معناها، لأن هذه المعاني الأخيرة أكثر تعلقاً بالمستقبل، أما القيمة فهي مرتبطـة بالحاضر، وملتصقة بالواقع، ولها حضور دائم، حتى لو تعلقت بأفعال تتم في المستقبل .
والقيمة بطبيعة الحال ليست شيئاً محسوساً، لذلك فإن الاستدلال عليها يكون من خلال آثارها، فهي تسكن خلف السلوكات والمواقف، وترسم مقوماتها، وتحدد اتجاهاتها . والقيم كذلك ذاتية مـن حيث المبدأ، تتعدد بتعدد الأشخاص، كما أنها نسبية تختلف من شخص لآخر، ومن جماعة لأخرى، وقد تختلف بالنسبة للشخص الواحد من وقت لآخر .
لكن رغم أن القيم ذاتية ونسبيّة، إلا أن ذاتيتها ونسبيتها ليست مطلقة، فكثير من الناس يتفقون مثلاً على أن الحق والخير والجمال قيم موضوعيّة، تماماً كما يتفق الكثير منهم على قيمة الذهب والماس ..! يضاف إلى ذلك أن القيم مُعدِية إن جاز التعبير، فالمجتمع الذي يعتبر الاستهلاك والاستعراض قيمة مهمة، ما يلبث أن ينقل هذه القيمة بسرعة إلى أفراده وأبنائه، بحيث تنتشر وتصبح أمراً مقبولاً، بل أمراً ذا وزن كبير يجدر السعي إليه .
بقيت كلمة واحدة أخيرة جدُّ مختصرة : إن المجتمعات النامية تتشابه في قيمها، والمجتمعات المتقدمة تتشابه أيضاً فـي قيمها . كما يغلب أن تتشابه القيم التي يتبناها الناجحون، تماماً كما تتشابه القيم التي يتبناها الفاشلون، فهل هذا دليل على أهمية القيم، وضرورة دراستها والانتباه إليها؟
المفضلات