00(00(
كيف نفهم القرآن الكريم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
ليس المقصود من هذا المقال ذكر قواعد تفصيلية لكيفية التفسير ومعرفة المعاني ، فنحن لا نريد في هذا المقال أن نجعلكم مفسرين ، وإنما المقصود ذكر بعض الأمور التي تعين على الفهم ، حتى تكون القراءة مرتبطة دائماً بالتدبر والفهم ، وإزالة الحاجز الذي يحول بين بعض الناس والتدبر الصحيح للقرآن الكريم ، وبيان الوسائل الصحيحة التي يسير عليها المسلم لفهم القرآن فهماً صحيحاً ، يحميه من القول على الله بغير علم .
* لماذا الحديث عن فهم القرآن ؟
الحديث عن فهم القرآن هو أهم حديث ينبغي الحرص عليه لعدد من الأمور :
أولاً : القرآن هو أصل الأصول كلها ، وقاعدة أساسات الدين ، وبه صلاح أمور الدين والدنيا والآخرة ، وهو إنما نزل ليعمل به ، ولا يمكن أن يعمل الإنسان بشيء لا يفهمه ، ومثَلُ من يقرأ القرآن ولا يفهمه ، كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم يأمرهم فيه وينهاهم ، ويدلهم على ما ينفعهم ، ويحذرهم مغبة سلوك طريق معين لأن عدوهم فيه يتربص بهم ، فعظموا الكتاب ورفعوهـ فوق رؤوسهم ، وصاروا يتغنون بقراءة ما فيه ، لكنهم سلكوا الطريق الذي نهاهم عنه فخرج عليهم العدو فقتلهم .
ثانياً : عدم فهم القرآن ، معناهـ زوال العلم وارتفاعه ، فعن أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَشَخَصَ بِبَصَرِهِـ إِلَى السَّمَاءِ ، ثُمَّ قَالَ : (( هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنْ النَّاسِ ، حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ . فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ : كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ ؟! فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا ، فَقَالَ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ ، إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، هَذِهـِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ ؟! . قَالَ جُبَيْرٌ : فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ ، قُلْتُ : أَلَا تَسْمَعُ إِلَى مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ ؟! فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ ، قَالَ : صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ ، إِنْ شِئْتَ لَأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنْ النَّاسِ ، الْخُشُوعُ ، يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَلَا تَرَى فِيهِ رَجُلًا خَاشِعً . (1) .
فزوال العلم يكون بعدم وجود من يقوم به ، ويفهمه حق فهمه ، وهو ذهاب أوعيته ، ويكون بعدم العمل به ، فمن لم يعمل بما علم فلا فائدة في علمه ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن العلم يرتفع من الناس مع أن أصله موجود ، لكن لما لم يستفد الناس منه ، ويفهموهـ حق فهمه كان وجودهـ وعدمه سواء .
ثالثاً: الأجر العظيم والثواب الجزيل في فهم القرآن وتدبرهـ ، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ : أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ الْعَقِيقِ ، فَيَأْخُذَ نَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ بِغَيْرِ إِثْمٍ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ ؟ قَالُوا : كُلُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ : فَلَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ ، وَإِنْ ثَلَاثٌ فَثَلَاثٌ مِثْلُ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الْإِبِلِ . (2) .
وإذا كان تعلم العلم هو أفضل الأعمال وأحبها ، وأشرفها وأرفعها ، فأعلى درجات العلم هو معرفة كلام الله وفهمه ؛ لأن شرف العلم من شرف المعلوم ، وكتاب الله أشرف شيء في الوجود ، فتعلمه أشرف شيء وأرفعه .
رابعاً : فهم القرآن حق فهمه سبب لوجود الألفة ، واجتماع القلوب ، وزوال الخلاف المذموم ، الذي ينشأ عنه الافتراق والاقتتال ، وعدم فهمه سبب لوجود الخلاف والشقاق . عن إبراهيم التيمي قال : خلا عمر ذات يوم ، فجعل يحدث نفسه ، كيف تحتلف هذهـ الأمة ، ونبيها واحد ، وقبلتها واحدة ؟ فأرسل إلى ابن عباس ، فقال : كيف تختلف هذهـ الأمة ونبيها واحد ، وقبلتها واحدة ، فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين إنا أنزل علينا القرآن فقرآناهـ ، وعلمنا فيم نزل ، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيم نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا . (3) .
خامساً : أن من أعرض عن تعلم القرآن وفهمه ، فقد يبتليه الله تعالى بالانشغال عنه والانصراف إلى غيرهـ ، فإن الله أخبر في كتابه أن من جاءه العلم ثم أعرض عنه وهجرهـ فإنه يورثه جهلاً ويصرف قلبه عن فهم العلم والتعلق به ، قال تعالى عن اليهود : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ، واتبعوا ما تتلوا الشيطان على ملك سليمان } فهؤلاء اليهود لما جاءهم كتاب الله على لسان رسول الله الذي يعرفون وصفه ونعته كما يعرفون أبناءهم ، فتركوهـ وأعرضوا عنه ، ابتلاهم الله جل وعلا باتباع أرذل الكتب وأكذبها وأضرها وهو ما تتلوهـ الشيطان على ملك سليمان (4) ، وقال تعالى : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون } [ سورة الروم ، 10 ] ، فالله عاقبهم لما فعلوا الأمور السيئة ، وارتكبوا الأحوال الشنيعة بالتكذيب والاستهزاء ، ولو أنهم أصلحوا واستجابوا لجعل الله في قلوبهم التصديق والاتباع .
فالاهتمام بالفهم لا يعني إهمال الحفظ ، وتحسين القراءة ، وضبط التجويد ، بل هذهـ الأمور عليها ثواب جزيل ، لكنها جمعياً وسيلة لفهم القرآن .
مقتبس
المفضلات