ليس أقسى من أن تشعر أنك مجرد بعوضة في حفلة للأسُود ..
هكذا كنت أسير كسرب بلا حمام .. كصوتٍ مغامر في صحراء ممتدّة .. كان الجوّ مشحوناً بالقبلات ، ولم أكن أملك شفتين !
ربما في الطاولة المجاورة أجد من يتفهّم هذه العُجْمة التي التصقت بي .. هكذا كنت أحدث نفسي البائسة بصمت أقرب إلى العجز .
ذلك الوغد الذي كان بجانبي أصبح يتحدث بطلاقة فتاة مراهقة تمسك سماعة الهاتف للمرة الثانية ! أصبحت أردد في نفسي أشياء كثيرة ، أصبحت أتردد أكثر ، صرتُ أوزّع الابتسامات دون معنى ، شعرت أنني سحابة من دخان في مواجهة ريح عاتية ...
اللعنة ذاتها تطاردني في كل منعطف .. أنفي لم يعد قادراً على استيعاب المزيد من هذه العطور / المبيدات ، التي تتكئ على أجساد العابرين !
لم تكن مصادفة أنْ جئتُ إلى هنا .. أشعر أن ترتيباً أقرب إلى المؤامرة كان يسوق تلك الأحداث إلى مسرحٍ لم يكن مضاءً أمامي بالشكل الجيد ، ولكنني كنتُ مخلصاً جداً في متابعة العرض حتى النهاية !
صدفةً ، وكما تكون الأشياء في أصدق فطريتها وسذاجتها أمسَكَتْ بذراعي من الخلف كزهرةٍ متوثّبةٍ للغناء ، أتتني كرائحة الإيمان تتسلل من ثقوب هذا الثوب الأسود السميك .. واستقبلتني بحفاوة بالغة .. كنّا على موعد سابق ، والآن أشعر أنني أعمل بلا ذاكرة ، تركّزت كلّ ذاكرتي / إدراكي / أعضائي / أنفاسي ... نحو هذه اللحظة الماطرة ، ضَحِكنا كثيراً ، وصَمَتنا أكثر ! كان الصمتُ والتأهّبُ وانتظار شيء ملعون قد يحلّ في هذه الساعة هو سيد الموقف.. ولكنها ساعة ولابدّ أن تمرّ !! هكذا يضفي المجتمع على اللحظات الجميلة عبئاً إضافياً ، وتأهباً قاتلاً من شأنه أن يحيل الموقف برمّته إلى لحظة نتمنى زوالها !
حين غادَرَتْ بعد مضيّ ساعة كاملة ، غادرَ معها كل شيء : الكلام / الصمت ، الأمان / الخوف ، الضوء / العتمة ... كانت بوّابةُ القاعة تناديني وتحرضني على الرحيل ، لم أعد قادراً على البقاء ، ولم أعد قادراً على الرحيل .. بقيتُ جالساً على الكرسي ، كعجوزٍ تسعينية تجلس أمام المدفأة في انتظار لحظة الخلاص ، كانتْ رجلاي أشبه بأرجل هذا الكرسي الذي أجلس عليه .. رِجْلان من خشبٍ لا تقوى على المسير ! أضواء القاعة التي كانت تنطفئ تدريجياً كانت تومئ نحوي بشفقة وسخرية .. بقايا الصخب والعطر والأوراق والمناديل والأضواء الغافية والشموع المترهّلة كانت تدفعني بقوة إلى المغادرة والرحيل .. أو على الأقلّ الموت حالاً ..!!
.
المفضلات