الشيخ محمد بن دحيلان ابو تاية الحويطي (ابو البلاغه)
ولد محمد بن دحيلان أبو تايه عام 1880 في جنوب الأردن لعشيرتين كريمتين، فوالده من عشائر أبو تايه ووالدته من عشائر المراعية وتعد كلتاهما الأوسع إنتشاراً في قبيلة الحويطات المنتشرة عشائرها آنذاك في المنطقة من شمال الحجاز جنوباً إلى أواسط الأردن شمالاً ومن فلسطين غرباً إلى العراق شرقاً.
نشأ إبن دحيلان وسط رجالات هذه القبيلة المعروفين لدى القبائل الأخرى بالكرم والجود، والذين يعتبرون من أشد المقاتلين بأساً في الصحراء التي سادتها حالة المعارك والغزو وصراع البقاء في تلك الحقبة بين القبائل في المنطقة العربية حيث أنهم يتمتعون بشجاعة نادرة وشعور بالفخر والإعتزاز، وكانوا يسيطرون على طريق الحج الممتد من الشام إلى الحجاز في زمن الدولة العثمانية حيث كان الحجيج يتمتعون بالأمن و الطمأنينة خلال عبورهم لهذه المنطقة .
ولما كان الشيخ محمد بن دحيلان أبو تايه يتمتع بصفات الزعامة والقيادة إلتف حوله كثيرٌ من عشائر أبو تايه والفريجات عامة، فهو أكثر شيوخ الحويطات أتباعاً وأوسعهم ملكاً مما دفع الدولة العثمانية للسعي لإستمالته وتنصيبه الممثل الوحيد لعشائر الحويطات لديها. ومن هنا جاءت تسميته بشيخ الدولة، وقاموا بمنحه العديد من الأوسمة والإمتيازات إلا أن حسه الوطني والقومي غلب تلك الإغراءات والإمتيازات، حيث قام بزيارة لجلالة الشريف الحسين بن علي طيّب الله ثراه في مكة المكرمة، وكان ذلك في أواخر عام 1915 مبدياً إستعداده ورجال قبيلته للإنضمام للثورة العربية فور إعلانها، وقد نفِّذت هذه الوعود، حيث كان على رأس مستقبلي الأمير فيصل بن الحسين في الوجه عند إندلاع الثورة.
إبن دحيلان هو العقل المدبر للعشيرة، وصاحب رؤيا مستقبلية ثاقبة وذكاء منقطع النظير، وإذا تكلم أقنع من حوله ومن هنا جاءت تسميته بأبو البلاغة.
ومما جاء عنه في كتاب أعمدة الحكمة السبعة لكاتبه توماس ادوارد لورنس الذي وصفه بما يلي:
"كان ثرياً وكريماً، كان يعرف ويعالج مسائل رجال العشائرأفضل من أي شخص آخر، وكانوا يحترمونه حيث أنه كان نزيهاً ومتواضعاً وحكيماً. كما وكان محمد بن دحيلان رفيقاً أنيساً حلو المعشر قوياً مفكراً لديه الكثير من روح الدعابة، قوي البنية، طويل القامة بوضوح، عمره آنذاك كان 38 سنة (عام 1917)، كان يعتبر في العشيرة هو وإبن عمه عوده أبو تايه (كلوتين متعادلتين) حسب تعبير أبناء العشيرة. له أتباع موالين إليه أكثر من غيره، متذوقاً أكثر للترف ولديه بيتاً في معان فيه قطيع من النعام، وآخر فيه قطيعاً من الغزلان بالقرب من الطفيله، ومنزلاً آخر في ضور في منطقة الشراه، ومنزلاً رابعاً في الجفر. وبسبب تأثيره فإن جماعات عشائر أبو تايه عموماً كانوا يسيرون خلفه هو وإبن عمه عوده أبو تايه، وكان يعتبر العقل المدبر للمجالس العشائرية ويوجه سياستها، وكنت أُسر بروح النقد لديه، وغالباً ما إستخدمت ذكائي طامعاً بأن أحوله لصفي قبل أن أبلور فكرة جديده، حيث أن الخطط العسكرية بحاجة لتأييده قبل تنفيذها. إن رفقتنا في المسير الطويل جعلت أفكارنا وأحاسيسنا تلتقي سوياً وكانت أفكارنا يتخللها هدف منطوي على خطر ليلاً ونهاراً، وبوعي أو بلا وعي فقد كنا ندرب أنفسنا ونقلص رغباتنا وتمنياتنا إلى هدف وحيد والذي كان على الأغلب مستحوذ على اللحظات الغريبة للحديث ونحن متحلقين حول نار المساء وكنا نتسلى هكذا، في حين كان صانع القهوة يقوم بغليها وقبل أن يصبها للشرب، جاءت نحونا صليه من الرصاص من صوب الكثبان الرملية الواقعة في الشرق، فإنبطح أحد رجال عشيرة "عقيل" وزحف للأمام وهو يصرخ مذعوراً، حيث أصبح في منتصف النار، وقام محمد بن دحيلان بدفع موجة كبيرة من التراب بقدمه الضخمة فوق النار التي سرعان ما إنطفأت بسرعة وأصبحنا في ظلام دامس –أطفأ النار فوراً حتى لا يكون هدفاً واضحاً لنيران العدو ، فزحفنا للخلف لنحتمي بالأشجار وتبعثرنا لنصل إلى بنادقنا، وكانت لدينا ذخيرة محدودة ولا نريد أن نبددها، وتوقف العدو عن الرماية تدريجياً، وفي صباح اليوم الثاني سرنا تحت أشعة الشمس المشرقة بموازاة خط السكة الحديد لنرى أول قطار خارج من معان ومن ثم نندفع إلى الداخل على سهل الجفر الغريب، وللإستفادة من الوقت فقد أجلنا تناول الطعام مع محمد بن دحيلان أبو تايه، فقد كان دبلوماسياً، وبعد ذلك جرى الترحيب بنا لتناول الطعام عنده والمؤلف من الأرز واللحم والبندورة الجافة في خيمته (بيت الشعر) والتي كانت أكبر في طولها وعرضها من باقي الخيام كمثل باقي أمتعة محمد ابن دحيلان".
وكما ورد في نفس المصدر أن محمد بن دحيلان أبو تايه ورجاله قاموا منفردين بتعطيل سكة الحديد الممتدة 80 ميلاً و محطاتها السبعة ، والإستيلاء على الخط الممتد بين معان و المدورة و الذي كان بيد الجبش التركي. و بذلك أنهى محمد بن دحيلان الخط الدفاعي التركي النشط إلى المدينة المنورة .
ومما جاء عن محمد بن دحيلان في كتاب تاريخ الأردن في القرن العشرين للمؤرخين منيب الماضي و سليمان موسى:
"... وفوجئ الأتراك بهذه الهجمة الصادقة فارتبكوا وحاولوا الفرار, ولكن الحلقة التي ضربها العرب حولهم لم تمكنهم من ذلك, وسرعان ما انتهت المعركة بمقتل ثلاثمائة وأسر مائة وستين من الأتراك. ولم يتمكن من النجاة إلا عدد قليل من الجنود فرّوا على ظهور البغال أو الخيول. ولاحق محمد بن دحيلان الفارين على رأس فصيله من جماعته وتبعهم حتى مريغة. ولم يخسر العرب في هذه المعركة سوى قتيلين أحدهما رويلي والآخر شراري".
ُوصِفَ محمد بن دحيلان في كتاب الرحالة جو ترود دبيل 1914م (يوميات الجزيرة العربية مغامرة خارجة عن القانون):
"محمد بن دحيلان أبو تايه شخص يتسم بضخامة جسمه الصلب كالحجارة، وأوضح ما فيه عيناه الثاقبتان يتحلى بالأدب الجم وبعد تقديمه واجب الضيافة لنا، وأهدائي بعض الهدايا وكانت إحدى الظباء الصغيرة الجميلة التي يحتفظ بعدد منها في خيمته الضخمة، تلك المخلوقات الصغيرة والجميلة والفاتنة، وجلد نعامة جميلاً ملوناً بالأبيض والأسود، تحول فجأة لأستجوابي فيما إذا قد حصلت على إذن من الحكومة للقيام برحلتي هذه أم لا، وما إذا كان البدو يحبون رؤية الأجانب في ديرتهم وكان محمد يمثل قبيلته لدى الحكومة العثمانية وعلى صلة وثيقة بقائم مقام معان، وكان هذا الشيخ يتحلى بدبلوماسية راقية".
ونقتبس هنا بعضاً مما جاء في كتاب المؤلف براك داغش (نسب وتاريخ الحويطات بالجزيرة العربية) فقد جاء فيه :
"أخي القارئ إن الشيخ محمد بن دحيلان أبو تايه هو نظير عوده أبو تايه بالنسبة لرئاسة عشائر الفريجات وما يتبعها من عشائر الحويطات بالأردن، وبالنسبة للشيخ محمد بن دحيلان أبو تايه هو الذي يقوم في مصالح عشائر الحويطات لدى الحكومة التركية وهذا لا ينكره التاريخ ولا الحويطات عامة على أن محمد بن دحيلان أبو تايه هو الشيخ تجاه الحكومة آنذاك، وهو أول رجل من البدو الرحل عامة يقتني السيارة حيث يوجد حطامها الآن في وادي أبو طريفيات، ويقع هذا الوادي شرقاً من مركز باير والذي يبعد أربعون كيلومتراً. وعند قدوم الأشراف في وقت الثورة الأولى والتي فجرها الحسين بن على طيب الله ثراه كان من أول مستقبلي الأشراف".
ومما روي عن محمد ابن دحيلان أبو تايه ممن عاصروا حقبة من حياته )الشيخ علوش داغش أبو تايه وكريم حرب أبو تايه والشيخ إبراهيم الرواد (أول رئيس بلدية لمعان) والشيخ محمد حسين الشراري والشيخ قاسم محمود كريشان والشيخ ساري محمد أبو تايه( أنه كان يحب العلم والتعليم مما دفعه إلى تعيين معلم خاص لأنجاله يسير معهم في حلّهم وترحالهم مقابل راتب شهري وقد اقتبس هذه الفكرة كلوب باشا (أبو حنيك) كما كانت القبائل تسميه (رئيس أركان الجيش العربي آنذاك) وطبقها فيما بعد على نطاق أوسع. ومن الجدير بالذكر أن إحدى كريمات الشيخ ابن دحيلان "المربية الفاضلة السيدة شاز" كانت أول من حصل على شهادة جامعية من بنات شرق الأردن وآخر منصب لها قبل التقاعد كان مديرة كلية المغفور لها الملكة زين الشرف.
عارض محمد ابن دحيلان خطة الإنجليز الرامية لقصف قطاعات الأتراك المتمركزة في مدينة معان بالطائرات وقام بإقناع الأمير فيصل بن الحسين بصرف النظر عن هذه العملية وهكذا تركت هذه المدينة آمنة.
أحب الصحراء وعشقها وأحب مدينة معان, فبالرغم من داراته المنتشرة في مناطق جنوب الأردن إلا أنه كان يمضي وقتاً أطول في مدينة معان, وإضافة لما كان يرعاه من أيتام وأرامل في البادية فقد خصّص جزءاً من منزله الواسع في معان كمسكن دائم لبعض الأرامل والأيتام وأبناء السبيل المقطوعين وقد سار على نهجه في هذا المجال وأبقى هؤلاء في ماهم عليه نجله المرحوم مضحي الذي استقر وتوفي ودفن في مدينة معان.
وقد كان أهل البادية يعتبرون هذا المنزل هو بيت ضيافة مفتوح لهم باستمرار وفي الواقع ظل كذلك إلى أن جاء فيضان معان المؤلم في أوائل الستينات حيث دمر هذا المنزل كما دمر الكثير من بيوت مدينة معان.
ومن عادات محمد ابن دحيلان المستحبة الأخرى رحمه الله أنه كان يقدم كل يوم خميس حاضراً كان أم غائباً ولائم الطعام في ساحة منزله في معان للفقراء والأيتام ولمن انقطعت بهم السبل هناك.
وقد ذكر الشاعر البدوي بعض هذه الصفات :
محمد أخو طرفة بيِِِن بذكـــره لكن ظلام الليــــل يتقى نهـــاره
يشهد له التاريخ في كل حالة ريف الضعافا لا غليت اسعارها
(أخو طرفة هي نخوة محمد بن دحيلان)
رزق رحمه الله من الابناء الذكور ستة وهم سويلم وهو الأبن الأكبر ومما جاء عن جهاده في معارك فلسطين (1948) بكتاب تاريخ الأردن في القرن العشرين, ومجلة الأقصى العدد رقم 963 إن سويلم بن دحيلان كان على رأس إحدى فصائل أبناء العشائر (الفصيل من 30 – 50 مناضل) التي شاركت في النضال في حروب عام 1948 في فلسطين وقد أبلى رحمه الله بلاءً حسناً وبلغ عدد المناضلين الأردنيين 1200 مناضل معظمهم من عشيرتي الحويطات وبني صخر. ومن أبناءه أيضاً سالم, الهزيل , و ملاح الذي كان أحد أبطال وشهداء الجيش العربي في معركة القدس الشهيرة عام 1967 وكأنه أبى رحمه الله حتى بعد استشهاده إلا أن يبقى في ثراها الطهور حيث لم يعثر على جسده الطاهر لغاية الآن. وأما مضحي فقد ورد ذكره في سياق البحث أعلاه أما أصغر أبناءه فهو نايف الذي كان من أوائل ضباط الجيش العربي وقد تلقى تدريبه العسكري في كل من بريطانيا و الباكستان و أمضى معظم خدمته العسكرية بالضفة الغربية .سار جميع أنجاله رحمهم الله على دربه فقد كانوا كما يصفهم أهل البادية (طعّامين زاد فكَاكين نشب)
و توفي محمد بن دحيلان رحمه الله عام 1939 في معان المدينة التي أحبها ودفن في مقبرتها الشرقية
من صور الشيخ محمد بن دحيلان ابوتايه ، يعود تاريخها للعام 1914 :
(إبن دحيلان يظهر لليمين)
نقل للإفاده
المفضلات