قيل : هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وولد لاوي ليعقوب وهو ابن تسع وثمانين سنة ، وولد قاهث للاوي وهو ابن ست وأربعين سنة ، وولد لقاهث يصهر ، وولد عمران ليصهر وله ستون سنة ، وكان عمره جميعه مائة وثلاثين سنة .
وأم موسى يوخابد . واسم امرأته صفورا بنت شعيب النبي .
وكان فرعون مصر في أيامه قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف الثاني ،
وكانت امرأته آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد فرعون يوسف الأول .
وقيل : كانت من بني إسرائيل ، فلما نودي موسى أعلم أن قابوس فرعون مصر مات وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه ، وكان عمره طويلا ، وكان أعتى من قابوس وأفجر ، وأمر أن يأتيه هو وهارون بالرسالة . ويقال : إن الوليد تزوج آسية بعد أخيه ، ثم سار موسى إلى فرعون رسولا مع [ ص: 151 ] هارون ، فكان من مولد موسى إلى أن أخرج ببني إسرائيل من مصر ثمانون سنة . ثم سار إلى التيه بعد أن مضى وعبر البحر ، وكان مقامهم هنالك إلى أن خرجوا مع يوشع بن نون أربعين سنة ، فكان ما بين مولد موسى إلى وفاته مائة وعشرين سنة .
قال ابن عباس ،
وغيره ، دخل حديث بعضهم في بعض : إن الله تعالى لما قبض يوسف وهلك الملك الذي كان معه وتوارثت الفراعنة ملك مصر ونشر الله بني إسرائيل لم يزل بنو إسرائيل تحت يد الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ، ويعقوب ، وإسحاق ، وإبراهيم شرعوا فيهم من الإسلام حتى كان فرعون موسى ، وكان أعتاهم على الله وأعظمهم قولا وأطولهم عمرا ، واسمه فيما ذكر الوليد بن مصعب ، وكان سيئ الملكة على بني إسرائيل يعذبهم ويجعلهم خولا ويسومهم سوء العذاب .
فلما أراد الله أن يستنقذهم بلغ موسى الأشد وأعطي الرسالة ، وكان شأن فرعون قبل ولادة موسى أنه رأى في منامه كأن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل ، وأخربت بيوت مصر ، فدعا السحرة ، والحزاة ، والكهنة ، فسألهم عن رؤياه ، فقالوا : يخرج من هذا البلد ، يعنون بيت المقدس ، الذي جاء بنو إسرائيل منه ، رجل يكون على وجهه هلاك مصر ، فأمر أن لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح ويترك الجواري .
وقيل : إنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحزاته إليه فقالوا : اعلم أنا نجد في علمنا أن مولودا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه يسلبك ملكك ويغلبك على سلطانك ، ويبدل دينك . فأمر بقتل كل مولود في بني إسرائيل .
وقيل : بل تذاكر فرعون وجلساؤه معا ما وعد الله - عز وجل - إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل لينتظرون ذلك ، وقد كانوا يظنونه يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا وعد الله إبراهيم . فقال فرعون : كيف ترون ؟ فأجمعوا على أن يبعث رجالا يقتلون كل مولود في بني إسرائيل ، وقال للقبط : انظروا مماليككم الذين يعملون خارجا فأدخلوهم واجعلوا بني إسرائيل يلون ذلك ، فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم ، فذلك حين يقول الله - عز وجل - : إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ، فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح وكان يأمر بتعذيب الحبالى حتى يضعن ، فكان يشق القصب ويوقف المرأة عليه فيقطع أقدامهن ، وكانت المرأة تضع فتتقي بولدها القصب ، وقذف الله الموت في مشيخة بني إسرائيل ، فدخل رءوس القبط على فرعون وكلموه ، وقالوا : إن هؤلاء القوم قد وقع فيهم الموت فيوشك أن يقع العمل على غلماننا ، تذبح الصغار وتفني الكبار ، فلو أنك كتبت تبقي من أولادهم ، فأمرهم أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة ، فلما كان في تلك السنة التي تركوا فيها ولد هارون ، وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها ، وهي السنة المقبلة . فلما أرادت أمه وضعه حزنت من شأنه ، فأوحى الله إليها ، أي ألهمها : أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم - وهو النيل - ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين .
فلما وضعته أرضعته ثم دعت نجارا فجعل له تابوتا ، وجعل مفتاح التابوت من داخل وجعلته فيه وألقته في اليم ، فلما توارى عنها أتاها إبليس ، فقالت في نفسها : ما الذي صنعت بنفسي ! لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابه . فلما ألقته قالت لأخته - واسمها مريم - قصيه - يعني قصي أثره - فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون أنها أخته ، فأقبل الموج بالتابوت يرفعه مرة ويخفضه أخرى حتى أدخله بين أشجار عند دور فرعون ، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدن التابوت فأدخلنه إلى آسية ، وظنن أن فيه مالا ، فلما فتح ونظرت إليه آسية وقعت عليها رحمته وأحبته ، فلما أخبرت به فرعون ، وأتته به قالت : قرة عين لي ولك لا تقتلوه . فقال فرعون : يكون لك ، وأما أنا فلا حاجة لي فيه .
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت لهداه الله كما هداها .
وأراد أن يذبحه فلم تزل آسية تكلمه حتى تركه لها وقال : إني أخاف أن يكون هذا من بني إسرائيل وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا ، فذلك قوله - عز وجل - : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا . وأرادوا له المرضعات فلم يأخذ من أحد من النساء ، فذلك قوله : وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت - أخته مريم - هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون . فأخذوها ، وقالوا : ما يدريك ما نصحهم له ؟ هل يعرفونه ؟ حتى شكوا في ذلك . فقالت : نصحهم له ، وشفقتهم عليه ، ورغبتهم في قضاء حاجة الملك ، ورجاء منفعته . فانطلقت إلى أمه فأخبرتها الخبر ، فجاءت أمه ، فلما أعطته ثديها أخذه منها ، فكادت تقول : هذا ابني ، فعصمها الله .
وإنما سمي موسى لأنه وجد في ماء وشجر ، والماء بالقبطية مو ، والشجر سا . فذلك قوله تعالى : فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن .
وكان غيبته عنها ثلاثة أيام ، وأخذته معها إلى بيتها ، واتخذه فرعون ولدا فدعي ابن فرعون ، فلما تحرك الغلام حملته أمه إلى آسية ، فأخذته ترقصه وتلعب به وناولته فرعون ، فلما أخذه إليه أخذ الغلام بلحيته فنتفها ، قال فرعون : علي بالذباحين يذبحونه ، هو هذا ! قالت آسية : لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ، إنما هو صبي لا يعقل وإنما فعل هذا من جهل ، ولقد علمت أنه ليس في مصر امرأة أكثر حليا مني ، أنا أضع له حليا من ياقوت وجمرا فإن أخذ الياقوتة فهو يعقل فاذبحه وإن أخذ الجمر فإنما هو صبي ، فأخرجت له ياقوتها ووضعت له طشتا من جمر فجاء جبريل فوضع يده على جمرة فأخذها فطرحها موسى في فمه ، فأحرقت لسانه ، فهو الذي يقول الله تعالى : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي . فدرأت عن موسى القتل .
وكبر موسى ، وكان يركب مركب فرعون ويلبس ما يلبس ، وإنما يدعى موسى بن فرعون ، وامتنع به بنو إسرائيل ولم يبق قبطي يظلم إسرائيليا خوفا منه .
ثم إن فرعون ركب مركبا وليس عنده موسى فلما جاء موسى قيل له : فرعون قد ركب ، فركب موسى في أثره فأدركه المقيل بأرض يقال لها منف - وهذه منف ( بفتح الميم وسكون النون ) - مصر القديمة التي هي مصر يوسف الصديق ، وهي الآن قرية كبيرة ، فدخل نصف النهار ، وقد أغلقت أسواقها ، على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته يقول هذا إسرائيلي قيل إنه السامري وهذا من عدوه يقول من القبط فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ، فغضب موسى لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ، وكان قد حماهم من القبط ، وكان الناس لا يعلمون أنه منهم بل كانوا يظنون أن ذلك بسبب الرضاع . فلما اشتد غضبه وكزه فقضى عليه ، قال : إن هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ، أوحى الله تعالى إلى موسى : وعزتي لو أن النفس التي قتلت أقرت لي ساعة واحدة أني خالق رازق لأذقتك العذاب . قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين . فأصبح في المدينة خائفا يترقب أن يؤخذ ، فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه - يقول يستعينه - قال له موسى إنك لغوي مبين . ثم أقبل لينصره ، فلما نظر إلى موسى وقد أقبل نحوه ليبطش بالرجل الذي يقاتل الإسرائيلي خاف أن يقتله من أجل أنه أغلظ له في الكلام قال : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين . فترك القبطي ، فذهب فأفشى عليه أن موسى هو الذي قتل الرجل ، فطلبه فرعون ، وقال : خذوه فإنه صاحبنا . فجاء رجل فأخبره ، وقال له : إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج .
قيل : كان حزقيل مؤمن آل فرعون ، كان على بقية من دين إبراهيم - عليه السلام - وكان أول من آمن بموسى . فلما أخبره خرج من بينهم خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين . وأخذ في ثنيات الطريق ، فجاءه ملك على فرس وفي يده عنزة ، وهي الحربة الصغيرة ، فلما رآه موسى سجد له من الفرق . فقال له : لا تسجد لي ولكن اتبعني ، فهداه نحو مدين . وقال موسى وهو متوجه إليها : عسى ربي أن يهديني سواء السبيل . فانطلق به الملك حتى انتهى به إلى مدين ، فكان قد سار وليس معه طعام ، وكان يأكل ورق الشجر ، ولم يكن له قوة على المشي ، فما بلغ مدين حتى سقط خف قدمه . ولما ورد ماء - قصد الماء - مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان ، أي تحبسان غنمهما ، وهما ابنتا شعيب النبي ، وقيل : ابنتا يثرون ، وهو ابن أخي شعيب ، فلما رآهما موسى سألهما : ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير . فرحمهما موسى فأتى البئر فاقتلع صخرة عليها كان النفر من أهل مدين يجتمعون عليها حتى يرفعوها فسقى لهما غنمهما ، فرجعتا سريعا ، وكانتا إنما تسقيان من فضول الحياض . وقصد موسى شجرة هناك ليستظل بها فقال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير
قال ابن عباس : لقد قال موسى ذلك ولو شاء إنسان أن ينظر إلى خضرة أمعائه من شدة الجوع لفعل وما سأل إلا أكلة .
فلما رجع الجاريتان إلى أبيهما سريعا سألهما فأخبرتاه ، فأعاد إحداهما إلى موسى تستدعيه ، فأتته ، وقالت له : إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا . فقام معها ، فمشت بين يديه ، فضربت الريح ثوبها فحكى عجيزتها ، فقال لها : امشي خلفي ودليني على الطريق ، فإنا أهل بيت لا ننظر في أعقاب النساء .
فلما أتاه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين . قالت إحداهما ، وهي التي أحضرته : ياأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين . قال لها أبوها : القوة قد رأيتها فما يدريك بأمانته ؟ فذكرت له ما أمرها به من المشي خلفه . فقال له أبوها : إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني - نفسك - ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك . فقال له موسى : ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل . فأقام عنده يومه ، فلما أمسى أحضر شعيب العشاء ، فامتنع موسى من الأكل ، فقال : ولم ذلك ؟ قال : إنا من أهل بيت لا نأخذ على اليسير من عمل الآخرة الدنيا بأسرها . فقال شعيب : ليس لذلك أطعمتك إنما هذه عادتي وعادة آبائي ، فأكل ، وازدادت رغبة شعيب في موسى فزوجه ابنته التي أحضرته ، واسمها صفورا ، وأمرها أن تأتيه بعصا ، وكانت تلك العصا قد استودعها إياه ملك في صورة رجل ، فدفعتها إليه ، فلما رآها أبوها أمرها بردها ، والإتيان بغيرها ، فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها ، فلم تقع بيدها سواها ، وجعل يرددها ، وكل ذلك لا يخرج بيدها غيرها ، فأخذها موسى ليرعى بها فندم أبوها حيث أخذها وخرج إليه ليأخذها منه حيث هي وديعة ، فلما رآه موسى يريد أخذها منه مانعه ، فحكما أول رجل يلقاهما ، فأتاهما ملك في صورة آدمي فقضى بينهما أن يضعها موسى في الأرض ، فمن حملها فهي له ، فألقاها موسى فلم يطق أبوها حملها وأخذها موسى بيده فتركها له ، وكانت من عوسج لها شعبتان وفي رأسها محجن . وقيل : كانت من آس الجنة ، حملها آدم معه . وقيل في أخذها غير ذلك .
يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــع
الكامل في التاريخ
عز الدين أبو الحسن علي المعروف بابن الأثير
المفضلات